عن 87 عاماً، رحل عن عالمنا الشاعر المصري الكبير محمد إبراهيم أبو سنة (1937-2024) أحد أبرز أصوات الجيل الثاني من شعراء «التفعيلة» في مصر والعالم العربي، وأحد أبرز الأصوات الإذاعية في البرنامج الثقافي خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. عاش إبراهيم أبو سنة سنواته الأخيرة في عزلة تامة، وعزوف عن الأضواء والإعلام والميديا، مكتفياً بتاريخه الشعري والثقافي المضيء وبالمساحة الكبيرة التي احتلها - بدواوينه ومسرحياته الشعرية - في حركة الشعر الحر (أو شعر التفعيلة) ممثلًا مع فاروق شوشة ومحمد عفيفي مطر، وأمل دنقل، الجيل التالي أو «الرعيل الثاني» من شعراء هذا الاتجاه، بعد أن أسس له صلاح عبد الصبور، ونازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وأحمد عبد المعطي حجازي، وغيرهم من كبار شعراء هذا الاتجاه في مصر والعالم العربي.
عاش أبو سنة مخلصاً للشعر، يراه شجرة الحياة الوارفة، على أغصانها تنمو طفولة اللغة والروح والجسد.. ثمة إجماع بين من قرؤوا شعره أو وضعوه تحت مجهر الفحص النقدي والجمالي، بتميزه القيمي والإيقاعي، ربما يعود هذا الأمر إلى الشاعر نفسه الذي يقول عنه الناقد عبد الحكم العلامي «يمكن للمتابع لتجربة الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة، أن يشهد وعياً قوياً لديه بقيمة الشعر، وإيماناً راسخاً بدوره في حياة الإنسان، ذلك الدور الذي يتخطى تخوم الفيوضات الجمالية والتأثيرات العاطفية التي لا غنى للإنسان عنها، ليحتل - إضافة إلى ذلك - موقع المحفز على الفعل، وإحداث التغيير، ويتخذ دور المقاوم لعوامل الزمن، وهي تعمل جاهدة على هتك بهاء الإنسان على الأرض».
صوت عذب
كان أبو سنة بالفعل أحد أرق وأعذب الأصوات الشعرية التي انطلقت ضمن أبناء الرعيل الثاني من حركة الشعر الحديث، منذ أواخر الخمسينيات وحتى وقتنا، كان صوتاً مغنياً عذباً في دوحة الشعر الجميل التي صدح فيها هو وفاروق شوشة، ومحمد عفيفي مطر، وأمل دنقل، وغيرهم من الأصوات الشعرية المتمايزة التي شقت لنفسها نهراً جارياً عذباً شرابه للسائغين، وكان لكل صوت شعري منهم خصوصيته وسماته، إيقاعاته ومجازاته وصوره الكلية الكبرى.
وانفرد أبو سنة، من بينهم، بطريقةٍ خاصة في شق مجراه الخاص، وكان في صنيعه هذا أشبه بالمتصوفة والزاهدين المؤثرين للحفاظ على خصوصية وطبيعة تجربتهم الخاصة، كذلك كان أبو سنة متفرداً في طبيعة تجربته الشعرية، وكينونتها الجمالية التي جعلته حالة خاصة وتجربة فريدة من بين شعراء جيله.
ورغم أن شهرته في الأساس قد انبنت على تاريخه الإبداعي العريق، ورصيده الشعري الزاخر المتمثل فيما يزيد على ثلاثة عشر ديواناً شعرياً منذ صدر ديوانه الأول «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» (1965)، مروراً بدواوينه التالية في مرحلته المتوسطة والأخيرة، ومنها «تعاليْ إلى نزهة في الربيع»، و«شجر الكلام»، ومسرحيتين شعريتين، بالإضافة إلى كتبه ودراساته النقدية الرصينة، فإنه كان واحداً من أبرز إعلاميينا الأفذاذ الذين قاموا بدور بارز في حياتنا الثقافية خلال فترة من أهم فترات ازدهار الإذاعة المصرية، وتحديداً إذاعة البرنامج الثقافي (الثاني) التي أعطاها عمره، وتدرج في مناصبها من «مقدم برامج» إلى «مدير عام البرنامج الثقافي»، فنائباً لرئيس الشبكة الثقافية بالإذاعة المصرية، إلى أن وصل إلى منصب نائب رئيس الإذاعة المصرية، وقدم خلال مشواره الإذاعي المديد العديدَ من البرامج الثقافية التي كان لها دور ثقافي بارز، من أهمها «ألوان من الشعر»، و«حدائق الأوراق» وغيرهما.
الشعر حياة
كان أبو سنة ينظر إلى تجربته الشعرية باعتبارها الإبداع الأساسي في حياته، فمنذ صدور ديوانه الأول «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» عام 1965 ومنذ أن بدأ يشارك في الحياة الثقافية والشعرية، وينشر قصائده بانتظام، وهو ينطلق من مبدأ أن «الشعر عاصمة حياته»، هكذا صرح غير مرة في حوارات سابقة وقديمة له، منها حوار مطول أجراه معه صاحب هذه السطور ونشره في واحدة من الدوريات القومية المصرية فيما قبل 2010.
كان دائماً ما يلح على أن الشعر هو عاصمة حياته، الشعر الذي يستحق بأن يضحي من أجله بكل مغريات هذه الحياة، وبالتالي فلم يسلك أبو سنة إلا الدرب الذي يؤدي إلى تجويد تجربته الشعرية، وإنضاجها والتحليق بها إلى مدى ينفرد فيه بصوته.
في ضوء هذا المسار الذي اختطه لنفسه وحدده لإرهاف تجربته الشعرية وإنضاجها وتطويرها، توالى صدور دواوينه بعد «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» الذي صدر عام 1965، فصدر له تباعاً: «حديقة الشتاء»، و«الآبار القديمة»، و«أجراس المساء» (1975)، و«تأملات في المدن الحجرية» (1979)، و«البحر موعدنا» (1982)، و«زمان الأسئلة الخضراء» (1990)، و«شجر الكلام» (2000)، و«موسيقى الأحلام» (2004).
في المجمل، فإن تجربة أبو سنة الشعرية بدأت - شأنها في ذلك شأن أي تجربة أصيلة متصلة بسياقها العام - متأثرة بالمناخ الثقافي والفكري والسياسي والاجتماعي الذي كان سائداً في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حيث الصوت الجهير للقضايا الكبرى (أو السرديات العظمي كما يحلو للبعض أن يسميها)، وانعكس هذا - إلى حد كبير - في ديوانه الأول (قلبي وغازلة الثوب الأزرق)،
ولكن هذا الديوان في الوقت ذاته كان امتصاصاً لرحيق التجربة الإنسانية خلال مرحلة الطفولة في القرية أو مرحلة الشباب في المدينة، وهي تجربة اكتسبت خصوصيتها من الانفتاح على البعد التراثي الشعري العربي القديم الذي كان يقول «إنني أكافحه بشدة حتى لا تمتصني أصداء العصور القديمة».
لكن من المهم هنا الإشارة إلى ذلك النزوع الرومانسي الواضح في دواوينه الأولى، يقول الناقد الراحل د. علي عشري زايد «يتسم شعر أبو سنة الغنائي بروحٍ رومانسية عميقة متأثرة بثقافته الشعرية القديمة، وبخاصة ما يتصل منها بالشعراء العرب العذريين، كما يتسم بنزعة تجديدية تتجلى بصفة خاصة في التصرف اللغوي الواسع، وفي النزوع إلى التنويع الموسيقي، والتحرر من قوالب الشعر التقليدية».
قول الشعر
وفي عقدي الستينيات والسبعينيات، وما تلاهما امتلأ الكأس وفاض بالكثير من «الرحيق الشعري»، من حيث الكتابة الشعرية، والمعايشة الشعرية، والتفاعل حتى مع الحركة الشعرية قولاً ونقداً، وتزامن في هذه المرحلة «قول الشعر» مع «القول في الشعر». ونتج عن ذلك نشاط وافر من «الإبداع الشعري» الذي تمثل في دواوين عدة، ومسرحيتين شعريتين، فضلاً على العديد من الكتابات النقدية والشارحة، حول الحركة الشعرية وتطورها وانقلاباتها وتحولاتها.
وربما لإخلاصه ودأبه في محراب الشعر، أصبح الجهد الإبداعي الشعري هو الأبرز والأوضح في مسيرته كلها لدى عشاق الشعر ومريديه، مما أدى في النهاية إلى نوع من التواصل الحميم بين الشاعر وجمهوره. بالتأكيد خسرت الحركة الشعرية والإبداع الشعري العربي شاعراً كبيراً وأصيلاً، وسيظل إبداعه شاهداً على حضوره العذب وحسه الرهيف، وشعره الباقي ما بقي من يتذوق الشعر ويبحث عن الجمال.