
تقلل الأسواق من مخاطر حدوث تحول مفاجئ وجذري في النظام المالي العالمي تحت قيادة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، رغم وجود الدولار في قلب هذا التحول.
وشهدت العملة الأمريكية تراجعاً من أعلى مستوى لها بعد الانتخابات، حيث وصلت بداية الأسبوع الجاري لأدنى مستوياتها خلال شهرين، مقابل سلة من العملات الأخرى، رغم بيانات التضخم القوية والمدهشة مؤخراً، ومن المرجح أن يكون هذا مصدر لارتياح الرئيس الأمريكي، الذي أمضى سنوات في انتقاد التأثير المدمر لقوة الدولار على التصنيع الأمريكي، لكن بأي مقياس منطقي لا يزال الدولار قوياً.
فقد ولت منذ زمن بعيد الأيام، التي كان يتم فيها تداول اليورو عند 1.30 دولار، والإسترليني عند 1.60 دولار، حيث وصلت المستويات الحالية إلى 1.04 دولار و1.26 دولار على التوالي. كما ارتفع مؤشر قوة الدولار بنحو 15 % خلال العقد الماضي.
وحتى الآن كانت القاعدة السائدة في الأسواق هي: لا تقلقوا، لن تفعل الولايات المتحدة أبداً أي شيء غريب أو شاذ لمحاولة إجبار العملة على الانخفاض، إلا أنه بعد شهر واحد من حكم الرئيس الجديد حان الوقت للتساؤل عما إذا كان هذا الافتراض لا يزال منطقياً،
فالأعراف والتقاليد لا تقيده في مجالات أخرى، واكتشف الدبلوماسيون وخبراء السياسة هذا من خلال خبرات شاقة فيما يتعلق بالجغرافيا السياسية، حيث ذهبت عقود من التحالفات المنسقة بعناية أدراج الرياح مقابل ما يصفه مؤيدو ترامب بأنه سعي يؤثر إحلال السلام في أوكرانيا.
وفي الداخل كانت الإدارة الجديدة بالقدر نفسه من الحدة، إذ منح ترامب صلاحيات واسعة لأغنى رجل في العالم، إيلون ماسك، داخل المؤسسات الفيدرالية، حيث انشغل مساعدوه من دعاة التحرر الاقتصادي في إعادة هيكلة الأجهزة الحكومية من الداخل، وحتى إدارة الطيران الفيدرالية لم تسلم من تدابير التقشف وخفض الإنفاق.
وفي الأسواق المالية يراقب المستثمرون التطورات الجارية بذهول يقترب من تأييد الإجراءات المتخذة.
وواصلت الأسهم الأمريكية تسجيل مستويات قياسية جديدة الأسبوع الماضي، والسؤال هنا: هل يشعر المستثمرون في سوق السندات الحكومية بالقلق من التحديات، التي تواجه منظومة الضوابط والتوازنات الراسخة في قلب النظام الحكومي الأمريكي؟ الإجابة لا.
صحيح أن بعض المؤسسات الكبرى المسؤولة عن إدارة الاحتياطات العالمية تظهر قدراً من التوتر، وهو ما يتجلى في تراجع إقبالها على شراء سندات الخزانة الأمريكية بعد الانتخابات، مع ارتفاع أسعار الذهب بشكل حاد، لكن التراجع الذي شهدته أسعار السندات مطلع العام الجاري قد تلاشى تماماً.
ولا توجد مؤشرات على وجود أزمة - سواء كانت مالية أو تضخمية أو من أي نوع آخر، بل يبدو أن سوق السندات يرحب بخفض الإنفاق الفيدرالي، بغض النظر عن الوسائل، التي يراها إيلون ماسك، وما يطلق عليها مجموعة «إدارة الكفاءة الحكومية» مناسبة لتحقيق هذا الهدف.
خلاصة القول، يتعامل المستثمرون حالياً مع سياسات إدارة ترامب في ولايته الثانية - بكل ما تتضمنه من تجاوز للأعراف وإضعاف للتحالفات - كما لو كانت مجرد عرض سياسي، وليست مصدراً للقلق الحقيقي على استقرار الأسواق.
في أسواق العملات لم تترك توجهات الرئيس السياسية تأثيراً ملموساً بعد، وكانت بعض الإشارات في هذا السياق صعبة التفسير، فتصريح وزير الخزانة سكوت بيسنت لفوكس نيوز الأسبوع الماضي بأن سياسة الدولار القوي، التي تتبعها الولايات المتحدة «لا تعني منح دول أخرى الحق في اتباع سياسة العملة الضعيفة» - وهو تصريح لا يمكن اعتباره إشارة واضحة للمستثمرين لبيع الدولار.
ومن المعروف جيداً أن الرئيس ترامب مقتنع أن قوة الدولار تمنح الشركاء التجاريين ميزة غير عادلة، وقد جاءت الوثيقة الأكثر تداولاً في الأسواق المالية حالياً - وهي مقال نشره المستشار الاقتصادي للرئيس، ستيفن ميران، العام الماضي - لتؤكد أن الاقتصاديين المقربين من الرئيس يتمسكون بالرؤية نفسها.
ويزخر مقال ميران بأطروحات غير تقليدية حول الكيفية، التي يمكن بها لترامب وإدارته إعادة تشكيل النظام المالي، ويربط صراحة بين مساهمات الحكومات الأجنبية في الخزانة الأمريكية، والحصول على شروط تفضيلية في مجالي التجارة والأمن. وفي هذا الإطار قد يصبح إضعاف الدولار هدفاً قائماً بذاته.
ونقل ميران الإجماع السائد في وول ستريت بقوله: «لا يوجد منهج أحادي الجانب يمكن لإدارة ترامب اتباعه لتعزيز العملات منخفضة القيمة»، مضيفاً:
«هذا الاستنتاج خطأ». ويبدو ميران مصيباً في إشارته إلى أن المتعاملين في السوق قد استخفوا حتى الآن بفكرة وجود مسعى جاد لإضعاف الدولار، مستندين إلى حجج تبدو منطقية.
فنجاح مثل هذا المسعى مستحيل دون إجراء تخفيضات حادة في أسعار الفائدة الأمريكية - مع ما يصاحب ذلك من مخاطر إطلاق العنان للتضخم - أو التوصل إلى اتفاق مع الدول الأخرى للتضحية بمصالحها لصالح السياسة الصناعية الأمريكية، أو بناء احتياطات أمريكية ضخمة تُستخدم في التدخل المباشر لخفض قيمة الدولار. قبل ستة أشهر بدت كل هذه السيناريوهات غير واقعية، لكن هل يمكن المراهنة ضد حدوثها اليوم؟
إذا كان ترامب يمتلك الجرأة الكافية لتعريض حلف الناتو للخطر، فهو يمتلك الجرأة ذاتها للمساس بأسس النظام المالي العالمي، وقد أرسلت الأسواق المالية، باستقرارها الحالي إشارة، مفادها أن السياسات المحلية والخارجية الراديكالية، وغير المتوقعة أمر مقبول ويمكن التعايش معه، لذا لا ينبغي للمستثمرين أن يفترضوا أن الرئيس، الذي يتمتع الآن بثقة متزايدة، سيتعامل بحذر أو رفق مع الدولار الأمريكي.