روائع التراث الإسلامي

{title}
همزة وصل   -
يقول ابن الجوزيّ (597هـ) في كتابه «صيد الخاطر»: خلوتُ يوماً بنفسي، فقلت لها: ويْحكِ اسمعي أحدِّثكِ: إن جمعتِ شيئاً من الدنيا من وجهٍ فيه شُبهة، أفأنتِ على يقين من إنفاقه؟ قالت: لا، قلت: فالمحنة أن يحظى به الغير، ولا تنالين إلا الكَدَر العاجل، والوِزر الذي لا يؤمَن، ويحك اتركي هذا الذي يمنع منه الورع لأجل الله، فعامليه بترْكِه، وكأنك لا تريدين أن تتركي إلا ما هو محرم فقط أو ما لا يَصِحُّ وجهه؟ أما لكِ عِبرة في أقوام جمعوا، فحازه غيرهم، وأمَّلوا فما بلغوا مُناهم؟ كم من عالِمٍ جمع كتباً كثيرة ما انتفع بها، وكم من مُنتفِعٍ ما عنده عشرة أجزاء، وكم من طيِّب العيش لا يملك ديناريْن، وكم من ذي قناطير مُنَغَّص، أما لك فِطنة تتلمَّحُ أحوال من يترخَّص من وجهٍ فيُسلَب منها أوْجُه؟ ربما نزل المرض بصاحب الدار أو ببعض مَن فيه، فأنفق في سَنَته أضعاف ما ترخَّص به في كسبه، والمُتَّقي مُعافى.
يقول الله تعالى في مُحكم كتابه: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (الزخرف: 32).
يروى أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، دخل ذات يوم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو على حصيرٍ، قال: فجلستُ، فإذا عليه إزارُه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّر في جنبِه، وإذا أنا بقبضةٍ من شعيرٍ نحوَ الصَّاعِ، وقَرظٍ في ناحيةٍ في الغرفةِ، وإذا إهابٌ مُعلَّقٌ، فابتدرتْ عيناي (أي: ذرفتْ دمعها)، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما يُبكيك يا بنَ الخطَّابِ؟» فقال: يا نبيَّ اللهِ وما لي لا أبكي، وهذا الحصيرُ قد أثَّر في جنبِك، وهذه خِزانتُك لا أرَى فيها إلَّا ما أرَى، وذاك كسرَى وقيصرُ في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت نبيُّ اللهِ وصفوتُه وهذه خِزانتُك قال: «يا بنَ الخطَّابِ، أما ترضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدُّنيا».
جاء في تفسير قوله تعالى: «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (النحل: 97) أن المراد بها القناعة. وقال صلى الله عليه وسلم: «القناعة مال لا ينفد». وقيل: يا رسول الله، ما القناعة؟ قال: «الإياس مما في أيدي الناس، وإياكم والطمع فإنه الفقر الحاضر».
ورد في كتاب «رسائل الجاحظ» لأبي عثمان عمرو بن بحر (255هـ)، تحقيق وشرح عبد السلام هارون: إنما خالف الله تعالى بين طبائع الناس، ليوفق بينهم في مصالحهم، ولولا ذلك لاختاروا كلهم السياسة والتجارة والفلاحة، وفي ذلك بطلان المصالح وذهاب المعايش؛ فكل صنف من الناس مُزيَّن لهم ما هم فيه؛ فالحائك إذا رأى من صاحبه تقصيراً أو خُلْفاً، قال: ويلك يا حجّام! والحجّام إذا رأى مثل ذلك من صاحبه قال: ويلك يا حائك! فيجعل الله تعالى الاختلاف سبيلاً للائتلاف، فسبحانه مدبر قادر. ألا ترى إلى البدوي في بيت من قطعة خيش مُعمَّد بعظام الجيف، لباسه شملة من وبر أو شعر، ودواؤه بَعر الإبل، وطِيبه القطران، وحلي زوجته الوَدَع، وثماره المُقْل (ثمر الدوم)، وهو في مفازة لا يسمع فيها إلا صوت بومة، وعواء ذئب، وهو قانع بذلك مفتخر به.
عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، قالت لعُروة: ابنَ أختي، إنا كنا لننظر إلى الهلال ثلاثةَ أهلة في شهريْن، وما أُوقدِت في أبيات رسول، الله صلى الله عليه وسلم، نارٌ. فقلت: ما كان يُعيِّشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، جيرانٌ من الأنصار، كان لهم منائح (الناقة أو الشاة تُعطى لينتفع بلبنها ويعيدها)، وكانوا يمنحون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من أبياتهم، فيَسْقيناه.
© جميع الحقوق محفوظة لهمزة وصل 2024
تصميم و تطوير