زياد الرحباني.. عبقرية لا تتكرر

{title}
همزة وصل   -
يقول الفيلسوف الألماني عمانويل كانط، إن «العبقرية متعلقة بالذات غير المحكومة بقواعد محددة، باعتبار أن العبقرية مرتبطة أساساً بالموهبة، فالعبقرية هي تعبير عن الفن الجميل، والفنان الأصيل لا يمكن أن يكون تابعاً لفنان آخر، كما لا يمكن أن يخلق عملاً فنياً مشابهاً لعمل سابق، على اعتبار أن الفن ضد التبعية، إذ إن الفن حتى لو درس في المدارس فهو يحتفظ في جانب مهم منه بالعبقرية والموهبة».
فلسفة كانط هذه جسدها زياد الرحباني الذي رحل عن عالمنا مؤخراً بحرفيتها، ذلك العبقري المتفرد، الذي ارتبط اسمه طبيعياً بالرحابنة إلا أنه تميز عنها بإبداعاته في الموسيقى والمسرح والكتابة ليشكل بذاته ظاهرة أغنت الثقافة والفكر العربي متمرداً على واقعه فقد كان عابراً للأجيال والحدود على السواء.
بداية تفتح موهبة زياد (1956 - 2025) كانت من بوابة الأدب حيث أنجز ديواناً شعرياً بعنوان «صديقي الله» في عمر الثالثة عشرة من عمره، فيما بدأ بالتلحين في عمر الخامسة عشرة من عمره عند لحن «ضلك حبيني يا لوزية» وفي عامه السابع عشر لحن أغنية «سألوني الناس» لوالدته فيروز بغياب والده عاصي وتغيبه عن العمل الموسيقي حيث أحدثت صدى موسيقياً كبيراً.
شارك زياد بالتمثيل في مسرحية المحطة، إذ جسد دور الشرطي، وكرر هذا الدور لاحقاً في مسرحية ميس الريم، قدم خلالها مشهداً حوارياً موسيقياً مع فيروز.
بدأ زياد مسيرته المسرحية في عام 1973، وكانت أعماله مرآة للواقع في لبنان، وتفرد بمسرحياته بدءاً من موضوعاتها مروراً بالحضور والتعاطي مع الناس والألحان وغيرها ليقدم تجربة مختلفة عن والده وعمه منصور.
زياد ترك بصمات له في الإعلام وخاصة خلال الحرب الأهلية عبر إذاعة «صوت لبنان» في برامج مثل «بعدنا طيبين - قول الله»، «العقل زينة»، و«نص الألف خمسمية» وغيرها.
ظاهرة فريدة
يقول المخرج بسام دحدل، « إن زياد الرحباني ليس مجرد فنان، بل هو قامة كبيرة، ظاهرة فريدة خرج من رحم أكاديمية الرحابنة الموسيقية والغنائية حاملاً روح التمرد وأسلوب السخرية، لم يكن ظلاً لأحد، فهو يشبه بيروت في تناقضاتها غامض كالأحياء القديمة، صارم كحجارة الكنائس، وفي الوقت نفسه هش كالأحلام رجل منفي في الزمان والمكان، هو فنان يفجر الكلمات بدلاً من غنائها، يجعل من الخيبة بطلاً، ومن الضياع معنى، ومن السخرية نشيداً وطنياً، حتى صمته يقول شيئاً لم يكن من قبل، فهو صوت الذين لا صوت لهم كقوله: فكرنا يالي راح منيح، طلع منيح اللي راح».
وأضاف دحدل، «ما يميز زياد عن غيره من الفنانين ليس فقط الفن الذي قدمه، بل الطريقة التي عاش بها هذا الفن، وهو الذي أدخل السياسة إلى الأغنية دون شعار كتب عن الحب كأنه معركة».
وتابع: «في فن زياد نجد موسيقى كلاسيكية ممزوجة بالجاز، فهو صورها ومزجها وأعاد تشكيلها، فقد دمج الموسيقى الشرقية والغربية لنقد الواقع العربي بأسلوب ساخر لا يختبئ خلف موهبته بل يصيبك بكلمة مباشرة ساخرة حادة، صدقه جارح وهو صادق حتى الألم، قاسٍ كالحقيقة، حنون كأغنية».
وأردف دحدل، إن ثقافة زياد متعددة الطبقات، موسيقاه لا تخضع لمزاج السوق، هو موسيقي يفكر ويعرف وجع الناس الفقراء، لهذا تميز عن الآخرين، في مشواره الفني الذي امتد لأعوام تجاوزت الخمسين.
غياب مؤثر
وأشار دحدل إلى أن غیاب زياد عن الموسيقى والمسرح هو مثل انطفاء قنديل في زاوية المسرح، زاوية اعتدنا أن يخرج منها الضوء الصادق والموجع.
ولفت إلى أن زياد لم يكن صاحب موهبة بل صاحب موقف، يرسم بالموسيقى مشهداً كاملاً للواقع بشجاعة وبلا رتوش، غيابه هو فقدان مرآة كانت تفضح الزيف، هو أشبه بصمت البيانو الذي تعود أن يفتح الجراح لا ليزيدها بل ليجعلها تحكي.
وأضاف: «غيابه ليس فنياً هو غياب وعي وفكر، حيث كان فنه مشروعاً سياسياً واجتماعياً، ومسرحياته كانت منبراً للناس والصوت للناس ولوجع الناس، بموته انقطع خط فني موسيقي فريد كان يبني عوالم موسيقية مزج بها الشرقي بالغربي والشعبي بالجماهيري، بينما نرى أغلب من يعمل بمهنة الفن اليوم أن هناك انفصاماً عن الواقع بینما زیاد كان ذلك الصوت المتفرد ينقل الحقيقة».
وأوضح: «بغياب زياد خفت هذا الصوت وانقطع ذلك الخط الموسيقي الثائر، الذي رفض أن ينسج ألحانه من حرير بل نسجها من خيوط الحنين، بغيابه يغيب النبض الذي يمنح الموسيقى حياتها لا أحد بعد اليوم سيقول ما لا يقال».
وعما إذا انتهى المسرح السياسي برحيل زياد، قال دحدل: «لم ينتهِ المسرح السياسي لكنه فقد واحداً من ألمع نجومه، لأن زياد كان حالة استثنائية يصعب تكرارها، لا من حيث الموهبة ولا من حيث السياق السياسي الذي سمح لتجربته بأن تزدهر، كان زمناً فيه هامش حرية كافٍ ليقال ما لا يقال».
وأضاف إن المسرح السياسي لم ينتهِ بالكامل لأنه لم يكن حكراً على زياد بل هو شكل فني حي يمكن أن يولد من رحم الأزمات وكل عصر ينتج من يعبر عنه.
واختتم: «ما ميز مسرح زياد المغنّى هو الدمج الذكي بين الموسيقى والموقف السياسي، واللغة القريبة من الناس التي تجمع بين العامية والنبرة الساخرة. لا أحد يستطيع مواصلة نهج زياد الرحباني بنفس العمق والاستمرارية والتأثير حتى الآن، لكن النهج لم يقتل تماماً بل تغير شكله وانكمش جمهوره».
© جميع الحقوق محفوظة لهمزة وصل 2024
تصميم و تطوير