سام بانكمان.. عبقري العملات المشفرة الذي خدع العالم

{title}
همزة وصل   -
في عالم العملات المشفرة السريع والمتقلب، برز اسم سام بانكمان بسرعة صاروخية، وُصف بـ"المعجزة التكنولوجية" و"العقل العبقري" بعدما أسس بورصة FTX التي أصبحت في سنوات قليلة واحدة من أكبر منصات تداول الأصول الرقمية في العالم. قبل أن يبلغ الثلاثين، بلغت ثروته عشرات المليارات، وبات وجهاً مألوفاً في مؤتمرات التكنولوجيا والاقتصاد، يظهر إلى جانب شخصيات سياسية بارزة مثل بيل كلينتون وتوني بلير.
لم يكن بانكمان مجرد رجل أعمال تقليدي، فقد قدّم نفسه كداعية لفكرة "الإيثار الفعّال"، أي جمع الثروة بهدف التبرع بها في قضايا إنسانية، وارتدى ملابس بسيطة، وقاد سيارة متواضعة، وروّج لصورة "العبقري المنعزل" الذي يعيش حياة بعيدة عن البذخ. لكن هذه الصورة المثالية سرعان ما انهارت مع تفكك إمبراطوريته المالية.
صعود FTX ومنصة واعدة تنهار فجأة
انطلقت FTX عام 2019، وسرعان ما نافست عملاق السوق Binance بفضل وعودها بتداول آمن وسريع، وجذبت المنصة مئات الآلاف من العملاء، من مستثمرين أفراد إلى صناديق استثمارية ضخمة. لكن خلف الكواليس، كانت الشركة تعتمد على ممارسات محفوفة بالمخاطر. فقد كشف تقرير لمنصة "كوين ديسك" في نوفمبر 2022 أن FTX استعملت عملتها الخاصة FTT كضمان لقروض بمليارات الدولارات لصالح صندوق التحوط الشقيق Alameda Research. ومع تسرب هذه المعلومات، فقد المستثمرون الثقة وبدأوا بسحب أموالهم على نطاق واسع، في مشهد أشبه بـ"التهافت على البنوك". انهارت المنصة خلال أيام، كاشفةً عجزاً مالياً يصل إلى 8 مليارات دولار، وأعلنت إفلاسها في 11 نوفمبر 2022، وفق تقرير لصحيفة "الغارديان" البريطانية.
في الثاني من نوفمبر 2022، بدأ انهيار FTX يظهر علناً حين نشر موقع CoinDesk تقريراً مسرباً يكشف الميزانية العمومية لشركة ألاميدا، الشركة الشقيقة لـFTX، والذي أظهر أن جزءاً كبيراً من أصولها كان عبارة عن رمز FTT الذي ابتكرته المنصة بنفسها، مما جعل وضعها المالي هشاً ومبنياً على أصل غير سائل ومضاربي.
بعد ذلك، غرد تشانغبينغ تشاو مؤسس منصة Binance المنافسة معلنًا أن منصته ستبيع كل ما تملكه من رموز FTT، وهو ما تسبب في حالة ذعر شديدة. سرعان ما بدأ المستثمرون بسحب أموالهم بشكل جماعي، محاولين حماية أموالهم، بينما حاول سام تهدئة الأمور عبر تويتر مؤكدًا أن FTX بخير وتمتلك أصولًا كافية لتغطية جميع ودائع العملاء، وهو ما تبين لاحقًا أنه كذب محض. في محاولة يائسة للإنقاذ، لجأت FTX إلى منافستها Binance التي وقعت خطاب نوايا غير ملزم للاستحواذ عليها، إلا أن الصفقة انهارت في اليوم التالي بعد تقارير إعلامية كشفت سوء إدارة أموال العملاء، ليكون ذلك المسمار الأخير في نعش الشركة.
حقيقة الاحتيال
مع إجراءات الإفلاس، بدأت الحقائق المروعة تظهر. وصف جون راي، الرئيس التنفيذي الجديد لشركة FTX والذي أشرف سابقًا على إفلاس شركة إنرون، الوضع بأنه فشل كامل في الضوابط المؤسسية وغياب تام للمعلومات المالية الموثوقة لم يشهد له مثيل في حياته المهنية. كشفت ملفات الإفلاس أن FTX كانت تستغل ودائع العملاء سرًا لمنحها لشركة ألاميدا لاستخدامها في استثمارات مضاربة عالية المخاطر، بالإضافة إلى تمويل عقارات فاخرة وتقديم تبرعات سياسية ضخمة، دون أي فصل جوهري بين أموال العملاء وأموال الشركة الخاصة. ومع انهيار سوق العملات المشفرة في 2022، لم تتمكن ألاميدا من سداد قروضها، كاشفة عن فجوة هائلة في الميزانية.
تهم جنائية خطيرة
في النهاية، تم القبض على سام بانكمان في جزر البهاما وُوجهت له تهم جنائية خطيرة تشمل الاحتيال الإلكتروني والاحتيال في الأوراق المالية وغسيل الأموال واختلاس أموال العملاء وانتهاك قوانين تمويل الحملات الانتخابية. وأكد المدعون الفيدراليون أنه حوّل مليارات من أموال المستثمرين لتغطية خسائر ألاميدا وتمويل حياة شخصية باهظة، شملت شراء عقارات فاخرة في جزر البهاما بقيمة 200 مليون دولار.
وقالت كارولين إليسون، المديرة التنفيذية السابقة لشركة Alameda وشريكته السابقة، في شهادتها: "لقد ارتكبنا جرائم بأمر مباشر من سام"، ما دعم ادعاءات الادعاء بأن الاحتيال كان مخططًا له منذ سنوات، وليس مجرد "سوء إدارة".
المحاكمة
استمرت المحاكمة شهراً كاملاً في أواخر 2023، وكانت محط أنظار الإعلام العالمي. وصف الادعاء بانكمان بأنه "جشع وغارق في الغطرسة"، بينما حاول الدفاع تقديمه كشاب عبقري أخطأ في الإدارة لكنه لم يكن مجرماً. ورغم إصراره أمام هيئة المحلفين قائلاً: "لم أسرق أموال العملاء، ولم أحتل على أحد"، إلا أن الأدلة والشهادات أظهرت عكس ذلك. في 2 نوفمبر 2023، أدانته هيئة المحلفين بسبع تهم كبرى، ووصف المدعي العام الأمريكي الحكم بأنه رسالة واضحة: "هذه القضية تتعلق بالكذب والغش والسرقة. مهما كان مجال عملك جديدًا أو حديثًا، فإن الفساد لا يتغير".
تلقى الادعاء عشرات رسائل التأثير من الضحايا، منهم من فقد أكثر من 20 ألف دولار من مدخراته في عمر 24 عاما، وآخرون فقدوا جزءًا كبيرًا من مدخرات أسرهم. تظهر هذه الشهادات أن الانهيار لم يقتصر على صناديق الاستثمار، بل دمّر حياة عشرات الآلاف من الأفراد حول العالم.
السجن لمدة 25 عاماً
في 28 مارس 2024، صدر حكم بالسجن لمدة 25 عامًا بحق سام بانكمان-فريد، مؤسس منصة FTX، مع إلزامه بدفع 11 مليار دولار كتعويضات للمتضررين.
ومن المتوقع أن يقضي حوالي 18 عاما فقط في السجن بفضل نظام "الوقت الجيد" في السجون الفيدرالية الأمريكية، ما يتيح الإفراج عنه في 14 ديسمبر 2044. وقد تقدم محاموه بطلب استئناف للمحكمة الفيدرالية، لكن الطلبات لم تُقبل حتى الآن، ولا يزال الاستئناف قيد النظر. يقضي بانكمان عقوبته حاليًا في سجن فدرالي منخفض الحراسة في كاليفورنيا بعد نقله من مركز الاحتجاز الفيدرالي في بروكلين، وفقا لـ "بيزنس إنسايدر".
قضية بانكمان لم تكشف فقط عن انهيار رجل واحد، بل عن هشاشة صناعة العملات المشفرة برمتها، التي ما زالت تبحث عن شرعية وقواعد تنظيمية صارمة. من نجم صاعد يُحتفى به في المؤتمرات العالمية، إلى متهم يواجه عقوداً في السجن، أصبح بانكمان رمزاً للتحذير بأن البريق والوعود المثالية قد تخفي وراءها أضخم عمليات الاحتيال.
© جميع الحقوق محفوظة لهمزة وصل 2024
تصميم و تطوير