
في حقبة الرئاسة الأمريكية الحديثة، تحوّل المشهد السياسي والإعلامي بشكل جذري؛ فلم تعد قاعات الكونغرس هي المصدر الوحيد للأخبار، بل أصبحت استوديوهات الكوميديا الليلية الساحة الرئيسية لتقويض السلطة.
هذا التحوّل جعل من السخرية السلاح الأقوى والأكثر تأثيراً، إذ قدّمت برامج مثل "ساترداي نايت لايف (SNL)" و"ذا ليت شو " (The Late Show) لـ ستيفن كولبيرت، إطاراً لفهم حالة الفوضى السياسية، محوّلةً الترفيه إلى "خدمة عامة" للجمهور المعارض.
هذا التسييس الصريح، الذي دفع كولبيرت للتفوق في نسب المشاهدة، خلق واقعاً أجبر الكوميديين على أن "يصبحوا أكثر سياسية"، لأن شخصية ترامب الأيقونية لم تدع مجالاً للفكاهة الخفيفة، وهو رأي أكده أيقونة الكوميديا جون ستيوارت في مقابلة مع "ذا أتلانتيك" .
اقتصاد رقمي
إن القوة الحقيقية للسخرية لم تكن إيديولوجية فحسب، بل كانت ظاهرة اقتصادية مربحة بامتياز، عززها التحول نحو المنصات الرقمية.
أثبت "اقتصاد ترامب الكوميدي" أن القيمة الحقيقية تكمن في المشاهدات الرقمية ، حيث تحوّلت البرامج إلى "مصانع محتوى رقمي" تحقق إيرادات ضخمة؛ فقد تراوحت قيمة الدقيقة الإعلانية خلال المونولوجات التي تتناول ترامب ما بين 200,000 إلى 350,000 دولار على الشبكات الكبرى، في مؤشر على الطلب الهائل من المعلنين على المحتوى الذي يثير الجدل.
هذا النجاح ضمن استمرارية النقد كمشروع تجاري؛ حيث حققت المقاطع الساخرة لمونولوجات كولبيرت وSNL مئات الملايين من المشاهدات الأسبوعية على يوتيوب، وساهم محتوى SNL بـ 50 مليون دولار في إيرادات اشتراكات منصة "بيكوك" (Peacock) في عام 2024.
نجومية باهظة
إن الأرقام الهائلة لإيرادات الإعلانات تجد مبررها في التكاليف التشغيلية المرتفعة والاستثمار في النجومية. فبرامج مثل "ساترداي نايت لايف وبرامج الحديث المتأخر تتطلب ميزانيات ضخمة.
هذا يستلزم رواتب مرتفعة؛ حيث بلغت تقارير أجور الممثل الذي يقلّد ترامب في SNL، مثل أليك بالدوين ، ما يصل إلى 10,000 إلى 20,000 دولار للحلقة الواحدة، مع زيادة أجور طاقم الممثلين الأساسيين إلى مئات الآلاف سنوياً.
كما يتقاضى كبار مقدمي البرامج الساخرة، مثل ستيفن كولبيرت وجيمي كيميل، رواتب سنوية تُقدّر بعشرات الملايين من الدولارات (في حدود 15 إلى 25 مليون دولار سنوياً للبعض)، مما يجعلهم استثماراً رئيسياً للشبكات لا يُبنى على المشاهدات التلفزيونية وحدها، بل على قدرتهم على قيادة محتوى الشبكة عبر جميع المنصات.
الدمى الساخرة
شهد برنامج الدمى الساخرة "سبتينج إيمدج" (Spitting Image) البريطاني عودة قوية ومؤثرة عالميًا، بعد توقف دام سنوات، مستغلاً شخصية دونالد ترامب كمحرك رئيسي لنجاحه الجديد.
هذا البرنامج يقدم نقدًا مرئيًا ومباشرًا يتجاوز حواجز اللغة، محولًا ترامب إلى كاريكاتير مُتحرك مبالغ فيه يجسد غروره وتصريحاته المتهورة. لم يقتصر دور البرنامج على النقد المحلي؛ بل أصبح أداة فعالة لتشكيل التصور العالمي للسياسة الأمريكية.
وعلى الصعيد الاقتصادي، ساعدت شخصية ترامب على تبرير إحياء البرنامج وبثه على منصة "بريت بوكس" (BritBox) الرقمية، ثم انتقاله لاحقًا إلى يوتيوب لضمان حرية إبداعية أكبر.
ورغم أن أرقام المشاهدة التقليدية لم تعد متوفرة كما كانت في الثمانينات، إلا أن المقاطع الساخرة عن ترامب حققت نجاحًا رقميًا هائلاً؛ حيث حصدت أبرز الحلقات والمقاطع التي تناولت ترامب، مثل مواجهاته مع إيلون ماسك أو زيارته الرسمية، ما بين 389 ألفًا إلى 748 ألف مشاهدة على قناة البرنامج في يوتيوب، مؤكدةً أن الجدل السياسي الذي يولده ترامب هو وقود اقتصادي يضمن استمرارية الكوميديا العالمية الساخرة في العصر الرقمي.
واقع عبثي
يركز الكوميدي جو رايولا في تحليله "هل تهم السخرية السياسية في عصر دونالد ترامب؟" على المفارقة العميقة التي واجهت الكوميديين، حيث يرى أن السخرية التقليدية تعتمد على المبالغة في تصوير الواقع للكشف عن حماقاته.
لكن المشكلة تكمن في أن "الرئيس نفسه يلعب دور الكوميدي"، وأن سلوكياته وتصريحاته كانت بالفعل على درجة من العبثية والغرابة تجعل من الصعب على الكوميدي الساخر أن يتجاوزها.
ولهذا، يرى رايولا أنه عندما يُصرّ أي رئيس على لعب دور "الكوميدي الواقف" (Stand-up Comedian)، على الكوميديين الحقيقيين أن "يبقوا في منازلهم"، لأن "الواقع أصبح أكثر سخرية من الخيال".
تكيُّف نفسي
تتحول قوة السخرية إلى مفارقة نفسية عميقة عندما تصبح وسيلة للجمهور للتعايش مع الشذوذ السياسي بدلاً من معالجته، هذا ما أكده ديتر ديكليرك في كتابه "السخرية، الكوميديا، والصحة العقلية"، حيث جادل بأن السخرية أصبحت توفر "صمام أمان" يفرغ المشاعر السلبية دون تحويلها إلى طاقة للعمل السياسي.
كما أشارت تحليلات "جورنال أوف بوليتيكس آند إنترناشونال أفيرز" إلى أن "حملة ترامب ورئاسته هما بالفعل تجسيد للعبث"، مما جعل الضحك يساهم في تطبيع سلوكيات ترامب وتجريدها من قدرتها على الصدمة أو الغضب المُحفز للفعل.
هذه العملية تُعرف بـ "تأثير التحلل"، حيث يتعوّد الجمهور على الفضيحة بدلاً من رفضها.
انقسام أيديولوجي
أجمع النقاد على أن ترامب غيّر الكوميديا إلى الأبد، لكنهم حذروا من الآثار الجانبية لهذا التحول. حذرت الخبيرة في التواصل السياسي كاثلين هول جاميسون من "تأثير التنفيس"؛ حيث أن الضحك على النكتة قد يمنح الجمهور شعوراً بالإنجاز السياسي دون الحاجة إلى الفعل الحقيقي أو المشاركة المباشرة.
من جهتها، أشارت "وول ستريت جورنال" في تحليل نقدي إلى أن الكوميديا "عمّقت الانقسام الثقافي"، محوّلةً العرض إلى "خندق أيديولوجي" يعزز فقاعات الصدى بدلاً من جسر الهوة.
هذه الانتقادات تؤكد أن السخرية، رغم كونها سلاحاً فعالاً في تحفيز القاعدة الجماهيرية، هي سلاح غير فعال في إقناع المترددين أو المعارضين، بل وساهمت في تآكل "المعايير غير المكتوبة" التي تعتمد عليها الديمقراطيات، كما يُستدل من نظرية ليزكي وزيبلات في كتابهما "كيف تموت الديمقراطيات".
دبلوماسية ناعمة
لم يقتصر تأثير السخرية على المشهد الداخلي، بل امتد ليصبح سلاحاً في الدبلوماسية الثقافية الناعمة، مؤثراً على كيفية رؤية العالم للرئاسة الأمريكية. فالمقاطع الساخرة التي تنتقد ترامب تُرجمت وشُوهدت ملايين المرات عالمياً، مقدّمةً سردية مفادها أن النقد السياسي العلني لا يزال ممكناً وحيوياً في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، يرى البعض في هذا النقد الساخر انعكاساً لـ "فوضى" سياسية أمريكية متزايدة، مما أثر سلباً على صورة القيادة الأمريكية واستقرارها، خصوصاً عندما تحوّلت لحظات دبلوماسية حرجة مع قادة عالميين إلى مادة ساخرة في برامح الكوميديا والتي بدورها تحولت إلى أداة مزدوجة، تُفرح المعارضين في الداخل والخارج، لكنها تُعمّق القلق بشأن جدية الإدارة الأمريكية في نظر المؤسسات الدولية.
تهديد الحريات
وصلت الحرب بين السخرية والسلطة إلى ذروتها بوقوع حوادث كشفت عن تراجع هوامش الحرية الإعلامية. كان قرار شبكة إيه بي سي (ABC) بإلغاء برنامج "جيمي كيميل لايف" مؤقتاً في سبتمبر 2025، والذي جاء عقب ضغوط سياسية ومالية، بمثابة تحذير صارخ.
دونالد ترامب لم يخفِ سروره، بل صرّح علانية بأنه في إحدى المرات، دفعت شبكة إيه بي سي 16 مليون دولار لتسوية دعوى تشهير رفعها ضدها، في إشارة إلى أن الضغط القانوني هو ثمن السخرية.
ومع ذلك، لم ينتهِ عصر السخرية، بل انتقل إلى ساحات قتال جديدة؛ حيث دفع هذا التضييق الجمهور الديمقراطي نحو المنصات الرقمية المستقلة، مما يؤكد استمرارية السخرية كسلاح، ولكن بعيداً عن الرقابة المؤسساتية المباشرة.