صراع أمريكي صيني على جبهة النفط الكاريبية.. هل يشتعل فتيل 'فيتنام ثانية' في فنزويلا؟

{title}
همزة وصل   -
بينما تنشغل غرف العمليات الدولية بمراقبة بؤر الصراع التقليدية، تشهد "الحديقة الخلفية" للولايات المتحدة  حشداً عسكرياً هو الأضخم منذ عقود.

ومع إحياء الرئيس دونالد ترامب لـ "عقيدة مونرو" التاريخية وتدشين عملية "الرُمح الجنوبي" (Southern Spear)، لم يعد الصراع في فنزويلا مجرد خلاف سياسي، بل تحول إلى صدام إرادات مباشر بين القوى العظمى فوق أكبر احتياطي نفطي في كوكب الأرض.

تستند التحركات الأمريكية الحالية إلى رؤية استراتيجية محدثة أطلقها الرئيس ترامب رسمياً في 2 ديسمبر  2025، تزامناً مع الذكرى الـ 202 لـ "عقيدة مونرو".

في ذلك اليوم، أصدر البيت الأبيض وثيقة تاريخية حملت اسم "ملحق ترامب" (The Trump Corollary)، وهي صياغة هجومية للسياسة الأمريكية تهدف لتطهير النصف الغربي من الكرة الأرضية من أي نفوذ أجنبي معادٍ.

أكد ترامب في خطابه أن "الشعب الأمريكي ، وليس الدول الأجنبية ولا المؤسسات العولمية ،هو من سيتحكم دائماً في مصيره في هذا النصف من العالم".

هذا الإعلان لم يكن مجرد تنظير سياسي، بل كان بمثابة "ضوء أخضر" للبدء في استعادة الأصول الاستراتيجية التي تعتبرها واشنطن "مغتصبة" منذ تأميم قطاع النفط الفنزويلي في السبعينيات، مما وضع الولايات المتحدة في مسار تصادمي مباشر مع الصين وروسيا.

ميدانياً، دخلت عملية "الرُمح الجنوبي"مرحلة التصعيد الشامل تحت إشراف وزير الدفاع "بيت هيغسيث" والقيادة الجنوبية الأمريكية.

تضم العملية حاملة الطائرات الأضخم في العالم "يو إس إس جيرالد فورد"، و15 ألف جندي، وأسطولاً هجيناً من السفن الحربية والأنظمة الروبوتية المسيّرة.

وفي تطور دراماتيكي في 18 ديسمبر 2025، أعلن ترامب فرض "حصار بحري كامل وشامل" على ناقلات النفط المتجهة من وإلى فنزويلا.

وتلا ذلك في 20 ديسمبر2025  قيام خفر السواحل الأمريكي باحتجاز ناقلة النفط العملاقة "سينتشرز" في المياه الدولية، وهي تحمل نحو 1.8 مليون برميل من الخام المتجه إلى بكين.

ترامب صرّح في مقابلة مع شبكة " ان بي سي نيوز "  أُذيعت في 19 ديسمبر 2025: "لا أستبعد نشوب حرب.. إذا كانوا حمقى وسيستمرون في الإبحار، فستبحر سفنهم عائدة إلى أحد موانئنا".

حتى الآن، أسفرت العملية عن تنفيذ أكثر من 29 ضربة جوية واحتجاز عشرات السفن، مما خلف أكثر من 105 قتلى في صفوف من تصفهم واشنطن بـ "ناركو-إرهابيين".

بالنسبة للصين، تمثل فنزويلا شريان حياة استراتيجياً؛ حيث تستحوذ بكين على نحو 80% من صادرات النفط الفنزويلي (حوالي 600 ألف برميل يومياً)، وهو ما تعتبره جزءاً لا يتجزأ من أمنها القومي للطاقة.

ومع تصاعد وتيرة الاحتجاز، وصفت بكين وموسكو في اجتماع مجلس الأمن في 23 ديسمبر 2025 السلوك الأمريكي بـ "سلوك رعاة البقر" و"القرصنة الممنهجة".

وحذرت الدوائر الاستراتيجية في بكين، عبر افتتاحيات "غلوبال تايمز"، من أن أي مغامرة عسكرية برية أمريكية ستتحول حتماً إلى "حرب فيتنام ثانية".

بكين لا تكتفي بالتحذير، بل أصدرت ورقة سياسات جديدة تؤكد التزامها بحماية مصالحها في أمريكا اللاتينية، وهي تراقب "بروفة الحصار" الكاريبية بدقة لاستخلاص الدروس الدفاعية لما قد يواجهه أسطولها مستقبلاً في مضيق تايوان.

لا تتوقف عملية "الرُمح الجنوبي" عند حدود كاراكاس؛ فاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام 2025 كشفت عن حملة لطرد الشركات الصينية من قناة بنما، واستعادة السيطرة على المطارات والموانئ الحيوية في المنطقة.

كما امتد هذا "الهوس الأمني" ليشمل ضغوطاً لضم غرينلاند وتأمين منطقة القطب الشمالي، في مسعى لخلق طوق أمني عالمي "أمريكا أولاً".

هذا الضغط يضع الصين أمام "معضلة تايوان"؛ فبينما يغرق ترامب في "الحديقة الخلفية"، قد تجد بكين فرصتها لحسم ملف تايوان عسكرياً.

لكن التحدي يكمن في أن تصرفات ترامب في الكاريبي تمنح بكين "هدية دبلوماسية"؛ فبينما تتهم واشنطن بكين بعسكرة بحر الصين الجنوبي، تقوم هي بعسكرة الكاريبي، مما يسقط السردية الأخلاقية الأمريكية ويصورها كقوة استعمارية تسعى لاستعادة هيمنة القرن التاسع عشر.

كما أشارت بكين إلى أنها لا تنوي التراجع عن منطقة أمضت فيها العقود الأخيرة في تعزيز دبلوماسيتها وتقديم مليارات القروض للبنية التحتية، وكانت فنزويلا مستفيداً رئيسياً منها.

بينما يبدو أن "تعديل ترامب" على عقيدة مونرو يستهدف تلك الروابط، حيث تعطي الاستراتيجية الأولوية للأمريكتين وتقول إن الولايات المتحدة ستسعى إلى حرمان المنافسين من خارج نصف الكرة الأرضية من القدرة على امتلاك أو السيطرة على أصول حيوية استراتيجياً في المنطقة.

وفي ضغطه العسكري على فنزويلا، قال ترامب إنه يستهدف نظام نيكولاس مادورو، الذي يزعم أنه يستخدم أموال النفط لتمويل "إرهاب المخدرات والاتجار بالبشر والقتل والاختطاف"، واقترح رغبته في فتح الوصول الأمريكي إلى الأراضي والنفط والأصول الفنزويلية التي يقول إنها "سُرقت" عندما أمت الدولة حقول النفط في السبعينيات.
لكن ترامب يستهدف أيضاً دولة لها علاقات وثيقة مع الدول التي يراها قوى عظمى منافسة وهي الصين وروسيا، اللتان كانتا من الداعمين الدبلوماسيين الصامدين لنظام مادورو، حتى مع دخول فنزويلا في أزمة اقتصادية عميقة، وانتقاد جماعات حقوق الإنسان للقمع السياسي، بما في ذلك ما يحيط بانتخابات 2024 المتنازع عليها.

​أدان ممثلو موسكو وبكين حملة الضغوط الأمريكية ضد فنزويلا في اجتماع لمجلس الأمن الدولي، حيث قال الممثل الصيني سون لي إن بلاده تدعم جميع الدول في الدفاع عن سيادتها وكرامتها الوطنية، ودعا الولايات المتحدة لتجنب المزيد من التصعيد.
مع بلوغ الأزمة ذروتها في نهاية ديسمبر 2025، يرى بعض المحللين أن العالم يتجه نحو تقسيم جديد لمناطق النفوذ: الأمريكتان لواشنطن مقابل شرق آسيا لبكين.

إلا أن هذا السيناريو يصطدم بالارتباط الاقتصادي العميق بين الصين ودول أمريكا اللاتينية التي دعمتها بكين بمليارات الدولارات.

إن السيطرة على نفط فنزويلا بالنسبة لترامب هي مفتاح "الاستقلال الطاقوي" الكامل وحرمان الصين من أحد أهم موارده، ومع قفز أسعار النفط العالمية نتيجة تعطل الإمدادات، أصبح الاقتصاد العالمي رهينة لهذا "الفتيل" المشتعل. فهل ينجح "الرُمح الجنوبي" في فرض واقع جديد، أم أن فنزويلا ستتحول إلى مستنقع يستنزف القوى العظمى؟

إن الصراع الأمريكي الصيني في فنزويلا هو إعادة تعريف للنظام العالمي. فبينما يراهن ترامب على القوة العسكرية الغاشمة لاستعادة الهيمنة، تراهن الصين على صمود حلفائها و"فخ الاستنزاف".

يرى بعض المحللين الصينيين أن إحياء عقيدة مونرو يظهر إعادة ترتيب لأولويات المصالح الأمريكية أو حتى رؤية ترامب لعالم مقسم إلى "مناطق نفوذ" تقودها القوى العظمى، مما قد يعني أن الولايات المتحدة لن تتدخل بشكل مفرط في شؤون شرق آسيا مثل قضية تايوان والعلاقات الصينية اليابانية، وتعترف بدلاً من ذلك بهيمنة الصين في هذه المنطقة.

لكن آخرين يقترحون أن هذا مجرد "تراجع استراتيجي مؤقت" لن يرى الولايات المتحدة تتخلى عن ضمان هيمنتها العسكرية أو منافستها مع الصين. وحتى لو رأت بكين جانباً إيجابياً في تركيز الولايات المتحدة على حديقتها الخلفية، فإن ذلك لا يغير من الإحساس بضرورة السيطرة على السردية العالمية.

ومن جانب أخر يمثل إظهار الولايات المتحدة لعدوان عسكري في مياهها الإقليمية نقطة نقاش ملائمة لبكين، التي طالما اتهمتها واشنطن وحلفاؤها بفعل الشيء نفسه في بحر الصين الجنوبي وحول تايوان، مما جعل تصرفات ترامب ضد فنزويلا تمنح بكين وسيلة إضافية للدفاع عن سجلها وتصوير الولايات المتحدة كقوة من حقبة غابرة،وبغض النظر عن النتائج، فإن ما يحدث في مياه الكاريبي  يكتب السطور الأولى من الفصل القادم في تاريخ الصراع الدولي على الموارد والسيادة.
© جميع الحقوق محفوظة لهمزة وصل 2024
تصميم و تطوير