(1)
صحيح أنهم كشفوا سري في نهاية الأمر، لكن ذلك على الأقل وقع متأخرًا،
بعد ما يقرب من ثلاثة وثمانين عامًا، عشتها بينهم، بل في بيوتهم، دون أن يعرفوا
حقيقتي.
(2)
عام 1926، أولد في مدينة نيو يورك، «فيفيان ماير» هو اسمي الذي سماني
به والداي، أبي من النمسا، وأمي فرنسية تنقَّلت معها بين أمريكا وفرنسا، وعشت
لفترة في قرية «سانت بونيه» عند جبال الألب، وعندما بلغت الخامسة والعشرين قررت
الاعتماد على نفسي، وأن أنطلق.
عام 2009، تحديدًا في اليوم الواحد والعشرين من شهره الرابع، أغادر
دنياكم، بعد أن سقطت في نهاية العام الذي سبقه عن كرسي خشبي اعتدت الجلوس عليه في
حديقة عامة، ليرتطم رأسي بالجليد الصلب، فينقلونني إلى مستشفى، ومِن ثَم إلى دار
المسنين، في أطراف شيكاغو.
بين هذين التاريخين كانت حياتي الحافلة، التي لم يعرفها أحد أبدًا،
حتى جاء يوم قبل وفاتي بعامين ذهب فيه شاب ثلاثيني اسمه: «جون مالوف» إلى مزاد
بحثًا عمَّا يفيده لكتاب كان يعده عن تاريخ المنطقة التي يقطنها في شيكاغو.
يدفع مبلغ 380 دولارًا ثمنًا لصندوقي، يعود به إلى بيته، يفتحه بكل
شغف ليجد فيه نحو 40 ألف صورة «نيجاتيف» بالأسود والأبيض وغير مظهَّرة، يصاب
بالإحباط، فلم يكن هذا مراده.
ينحِّي صندوقي جانبًا، لكن الفضول يدفعه لاحقًا إلى فتحه من جديد،
ونشر بعض صوره على مدونته، لتُستقبل بحفاوة وإعجاب، فيقرر البحث عني، صانعة هذه
الصور، ليجد نعيًا لي خُتم بعبارة: توفيت بهدوء.
يتتبع العنوان المنشور، ليخبروه أنهم بصدد التخلص من جميع صناديقي،
فيقرر الاستحواذ عليها كلها، ليجد فيها أكثر من 150 ألف صورة موزعة في صناديقي
الأخرى، ووصية كنت قد كتبتها بخط يدي أوصي فيها من سيتولى تحميض وطبع الصور التي
تركتها بضرورة إتقان العمل.
سوف يبذل الشاب جهدًا كبيرًا حتى يكتشف أن جميعها التقطت ما بين عامي
1950 و1970 في شيكاغو ونيويورك، والعديد من عواصم ومدن العالم العديدة التي سافرت
إليها، وسيعرف أني التقطتها بكاميرا ألمانية الصنع من نوع «رولفلكس»، وأن هذه
الصورة تنتمي إلى فن «تصوير الشارع»، أي كل ما يمكن أن تلتقطه عيناك في الشارع من
أطفال وعجائز، وعمَّال، وسيارات، وحوانيت، ومشردين، ومبان، وطرقات، وحيوانات،
وغيرها من تفاصيل الحياة الزاخرة في الشارع.
ولأن الشغف والفضول يدفعان المرء إلى الإنجاز، فإن الشاب مضى يبحث
ويتقصى في أمري، ويلتقي بالعديد من الذين عشت بينهم وكانت لي علاقة معهم، لينشر
لاحقًا كتابه عني، وينتج فيلمه الوثائقي: «اكتشاف فيفيان ماير» الذي ترشح لجائزة
الأوسكار كأحسن فيلم طويل.
كان يتساءل مثل كثيرين: مَن هذه المرأة؟ وما سرها؟ وما حكاية
صناديقها المكتظة بهذه الثروة البصرية؟!
(3)
ببساطة أحبُّ التصوير، لكن لم أرغب في أن أمتهنه، فاخترت مهنة «مربية
أطفال»، براتب زهيد لدى عائلات شيكاغو الأغنياء، وبالطبع لم تكن هذه العائلات
لتتخيل ولو لحظة بأن هذه المربية هي فعليًّا مصورة محترفة، وتستطيع إن شاءت، ومن
خلال بيع صورها أن تنتمي إلى طبقتهم البرجوازية.
لكني اخترت هذه المهنة؛ لأنها تمنحني حرية الوقت؛ فكنت أصطحب الأطفال
في جولات، ألتقط على هامشها الصور، وحين أريد أن أفعل ما هو أكثر، ما هو أبعد،
أحصل على عطلتي وأسافر بعيدًا؛ لألتقط المزيد.
ولحسم أمري ودوافعي تركت في صناديقي تسجيلاً أقول فيه لمن سيكتشف أمري:
«لقد عشت حرة، وسأموت حرة؛ لأنني أفعل دائمًا ما أريد».
وصفوني بأني واحدة من أهم مصوري القرن العشرين، وزعم النقاد أن
الانطباع الأول الذي تتركه صوري هو «البهجة التي تصادفك في الطريق»، وبأني مصورة
عبقرية؛ وذلك لفرادتي بحسب رأيهم، ولإحساسي العالي في تأطير الصور التي تجمع
أحيانًا بين الفكاهي والتراجيدي بلقطة عابرة.
لم يفهم كثر رغبتي في العمل بعيدًا عن الأضواء، ففسَّر بعضهم ما حدث
بأني لم أرغب أن أكون مثل «فان غوخ»، الذي امتلك إحساسًا مرهفًا، لكن الناس لم
يعترفوا به، ولم يقدروه إلا بعد مماته، ولذلك انتحر مكتئبًا؛ كونه لم يبع إلا لوحة
واحدة خلال حياته كلها.
(4)
لم يكن الذين كنت أعمل لديهم مربية أطفال يستوعبون مقصدي عندما كنت
أقول لهم إذا ما عينت عند أحدهم وانتقلت للعيش معهم: «لقد أحضرت معي حياتي
كلَّها»، فأنا بالفعل قد خزَّنت حياتي كلها في صناديق أرحل بها على مدى أربعين
عامًا من مكان لآخر، صوري وأفلامي التي ربما لم تحمض وأشيائي الخاصة، أضع عليها
أقفالها، وأطلب من الذين أعمل معهم ألا يقتربوا من غرفتي، أو أشيائي الخاصة.
وهي ذات الصناديق التي بدأت في رهنها عند تجار المزادات حين ألمت بي
ضائقة مالية، وابتاعها الشاب، واكتشف لاحقًا أمري وأمرها.
(5)
في نهاية حياتي تنال مني الشيخوخة والفقر، إلى حدِّ أني بتُّ مهددة
بالطرد من بيتي، ينقذني الأخوان غينسبورغ، اللذان عملت مربية لهما في طفولتهما،
لكن الموت مثل الناس لا يرحم.
أما هؤلاء الذين اعتنيت بهم، أو عملت مربية لهم، سوف تتناقض أقوالهم
عني في فيلم الشاب «جون مالوف»، ما بين من يتهمني بالقسوة المفرطة، إلى حدِّ وصفي
بأني كنت مريضة عقليًّا، وبين من يعتقد أني كنت ملهَمة عطوفة، على كل حال ثمة ما
لن يختلف عليه اثنان منهم، أنني كنت فنانة، وإن عشت في العتمة.