ما يؤرّق الكثير من الأمريكيين وغير الأمريكيين الذين يخرجون إلى الشوارع رفضا لتوجهات حكوماتهم، ودعما لفلسطين، هو عدم اكتراث النخب الحاكمة بأي مؤسسات أو أعراف سياسية، أو قواعد دبلوماسية، وهو ما يقوّض سياسة القيم التي كانت ولا تزال المحكّ القوي في تصحيح النظام السياسي الأمريكي والغربي بالنسبة لهذه الشعوب، التي تصنع الرأي العام في مشهد غير مسبوق.
الأيديولوجية الصهيونية تتنكّر للديانة اليهودية، ولا يلتزم المتطرفون الصهاينة الذين يحكمون كيان الاحتلال مبادئها، التي جاءت في التوراة، بل عملوا ويعملون على نشر الصهيونية كحركة سياسية عدوانية، تبحث عن الهيمنة والسيادة وافتكاك الأرض، ما يفسر اعتبار إسرائيل أمس واليوم المشكلة الحقيقية في المنطقة، فهي منذ أن زرعوها في أرض ليست لها، تؤجّج الحروب والصدام دوما، وتدّعي أنّها مضطهدة تاريخيا، والمحيط الإقليمي يلفظها ومحور المقاومة يبحث عن إفنائها. وهي على ما هي عليه سياسة وفكرا وسلوكا موبوءة بالتعصّب العنصري والحقد التاريخي، وقد كشفت فاشيتها ونازيتها وإرهابها الهمجي لشعوب العالم ولأحراره أمام ما تقوم به من مجازر يومية في غزة وفلسطين.
إسرائيل تكرر حملة إبادة وتطهير عرقي وعملية تهجير على شكل نكبة ثانية أمام أنظار العالم الذي يدعي حقوق الإنسان ويتكلم عن القانون الدولي
أمّا الدّعم الأمريكي المطلق لإسرائيل فيزيدها تورّطا، ويهدد مصالحها في المنطقة.. ويدفع باتّجاه تنامي موجة الغضب واتّقاد مشاعر الكراهية تجاه الولايات المتحدة وكيانها الوظيفي، خاصة أنّ كليهما يقودان معسكر الرفض للسّلام في الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية عنوانه الأكبر، منذ عقود في مجلس الأمن وغيره من المنابر الأممية. الحقّ الفلسطيني يرفض أصحابه أن يُسلب منهم، وهذا حق جرى التنصيص عليه في مواثيق الأمم المتحدة ضمن الإقرار بحق الشعوب المستعمرة في تقرير مصيرها، والنضال من أجل تحرير أرضها ووطنها، ومن ازدواجية المعايير والعمى السياسي وصف حركات المقاومة بالإرهابية وهي التي تدافع عن كرامة شعبها ومقدسات أمتها. ساد في الولايات المتحدة قول مأثور: «كل ما يحقق الكسب حتى إن كان النهب فهو موضع تقدير». ولكنّ فرضيتان ثبت أن كلاً منهما كانت خطأ فادحا، أما الأولى فهي افتراض أن احتكار الولايات المتحدة لاستخدام القوة في المنطقة أساسا سيستمر إلى الأبد، إذ انتهت بمجرد أن تدخلت روسيا في سوريا. وأيضا ستسقط فرضيتها هذه بفشل كيانها في حربه ضد المقاومة لأنه يحارب بوكالة أمريكية، وأما الفرضية الثانية فهي الظن بأن الولايات المتحدة بإمكانها الاستمرار في فرض نظام دولي «قائم على القواعد»، طالما أنها استمرت في سن تلك القواعد. لقد دفن جو بايدن كلا الفرضيتين من خلال الاعتراف بأن القوى العظمى ستجبر على «إدارة التنافس» في ما بينها لتجنب صراع لا يمكن لأحد أن يفوز فيه. واستقباله للرئيس الصيني هو محصلة لذلك، وإن كان في ظاهره خطوة لتخفيف حدة الصدام والمنافسة. مسارات العدوان والمنطق الاستعماري الغربي المتواصل، تختصره واقعية ريتشارد كوك بالقول: «إنّ مورثات العدوان الصليبي المنحرف، والمدعومة بالعلم والتقنية وأقوى النظم الاقتصادية والعسكرية، مزقت الغرب ومن ورائه العالم إلى أجزاء. وحين يعاد توحيد مورثات التعصب المفرق مع الأصولية الدينية، فإنّ هذه المورثات تبقى تهديدا قويا للغرب، لا من الخارج فقط بل من الداخل الذي يعتبر أكثر تهديدا». ضمن هذا الإطار الدولي، كانت إسرائيل حرة في اتباع السياسات التي لا تزال قائمة حتى اليوم، بدعم كبير من الولايات المتحدة على الرغم من «قرقعة السخط» في بعض الأحيان بتعبير تشومسكي، الذي يؤكد دوما أنّ أمريكا مثال للدولة الفاشلة التي تروج للديمقراطية والقيم الإنسانية كالحرية والرحمة، لكنها أكثر الدول إسرافا في استخدام العنف وإراقة الدماء. ومثيلتها في ذلك إسرائيل حين طوروا منظومة معقدة للدعاية. وهم لا يسمونها دعاية وإنما «توضيح». والفكرة الكامنة خلفها ترى أن موقفهم تجاه كل شيء هو الموقف الصحيح وبشكل بديهي، بحيث أنهم لا يحتاجون إلا لتوضيح ذلك للناس. حينها يرون أنهم على حق. الهدف المباشر لسياسة الحكومة الإسرائيلية منذ مؤسسيها الأوائل وتنظيراتهم المعلومة، هو بناء «إسرائيل الكبرى»، بما في ذلك القدس الموسعة بشكل كبير، والتي تشمل القرى العربية المحيطة، وادي الأردن، وهو جزء كبير من الضفة الغربية مع جزء كبير من أراضيه الصالحة للزراعة، والمدن الكبرى في عمق الضفة الغربية، إلى جانب مشاريع البنية التحتية لليهود فقط، التي تدمجهم في إسرائيل. يتخطى المشروع التجمعات السكانية الفلسطينية، مثل نابلس، وذلك لدرء ما يصفه القادة الإسرائيليون بالمشكلة الديموغرافية الرهيبة. الكثير من غير اليهود في «الدولة اليهودية الديمقراطية» المتوقعة «لإسرائيل الكبرى»، وهو تناقض أكثر صعوبة إلى الفهم مع مرور كل عام. الفلسطينيون داخل «إسرائيل الكبرى» محاصرون في 165 من الجيوب المعزولة عن أراضيهم وبساتين الزيتون من قبل جيش معاد. ويتعرضون للهجوم المستمر من قبل العصابات اليهودية العنيفة «شباب التلال» التي يحميها الجيش الإسرائيلي.
لا يمكن للمرء تبسيط المسار المتصاعد لليمين المتطرف في الولايات المتحدة وأوروبا، كما أكّد محمد الشرقاوي، فعلى عكس الموجات المتتالية بين حقب الليبرالية والواقعية التي شكلت تحولات السياسة الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، يشكل انحياز الغرب وأمريكا تحديدا للفاشية الصهيونية انجراف الولايات المتحدة نحو مسار غير مسبوق من التطرف. وللأسف، خرجت سياسات هذه الدول بكل وضوح عن مسار ديمقراطية ليبرالية كانت نتاج الفلسفة السياسية الأخلاقية التي نادى بها عصر الأنوار في أوروبا، إلى طريق مظلم متعثر يحكمه الغموض والعزلة والعنصرية وكراهية الأجانب. وتطبيع لغة الكراهية والعدائية عند صناعة الآخر في الداخل والخارج، يشكل مخاطر جمّة بسبب الجمع بين الغوغائية والقومية الاقتصادية لدى بعض هؤلاء الحكام مثلما كان الحال مع دونالد ترامب، بعد أكثر من سبعة عقود من احتلال فلسطين، يجري بوتيرة مكشوفة التعاطف الغربي مع من أزاح السكّان الأصليين بجميع أشكال العنف والإرهاب. ويصبح من المستغرب الحديث حتّى عن حقوق موازية بين أصحاب الأرض والمستوطنين اليهود. مظاهرات حاشدة لدعم فلسطين، تطالب بوقف الحرب على غزة تغزو العواصم الغربية التي دعم رؤساؤها إسرائيل، وباركوا مجازرها وارهابها وجرائمها ضد الإنسانية بأسلحة محرمة دوليا. حركة شعبية تجتاح العالم ضد حكومات متواطئة مع الاستهداف الممنهج الذي يعبر عن الدموية والفاشية حتى للأماكن التي اعتقد أهل غزة أنها آمنة بما فيها المستشفيات. إسرائيل قامت على طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين وتطهيرهم عرقيا، في ما عُرف بالنكبة. وهي تكرر حملة إبادة وتطهير وعملية تهجير على شكل نكبة ثانية أمام أنظار العالم الذي يدعي حقوق الإنسان ويتكلم عن القانون الدولي. عندما نجد أنّ أقوى داعمي إسرائيل وحلفائها، دول قامت على الاستعمار والاستيطان وطرد السكان الأصليين، حينها ما من داع للاستغراب من الجريمة المشتركة وتشجيع الارهاب والنازية. يبقى من المؤكد أنّ جميع أحرار العالم من أنصار حق الشعوب في الحرية والاستقرار والسلم، والرافضين للظلم والطغيان، يتساءلون متى سيتوقف هؤلاء عن جعل العالم مصدر صراع ونزاعات متعدّدة تُترجم سياسيا ودينيا وثقافيا وحضاريا؟
كاتب تونسي