صدر عن دار الأديب/عمّان كتاب عن الفنان الراحل عيدان الشيخلي، تحت عنوان «نحت عالق في عزلته». حرر الكتاب الفنانين صلاح عباس ومصطفى العجيل، وشاركت في تحريره نخبة من النقاد والفنانين، عاصم عبد الأمير/ عاصم فرمان / جواد الزيدي/قيس عيسى /والناقد جاسم عاصي/والناقد صلاح عباس والمترجم حسين علوان، طباعة وتصميم الفنان هيثم فتح الله، وترجمة النصوص للإنكَليزية حسين علوان حسين، والتصوير الفوتوغرافي للفنانين حسين المليجي وديار زياد جسام.
ذكر الناقد عاصم عبد الأمير أن منحوتات الشيخلي (لم تكن خارج نسقها التأريخي والمفاهيمي.. وتجاربه النحتية تضعه في مقدمة الرياديين الذين أداروا ظهورهم مبكراً للحيرة التي علق فيها الخمسينيون شوطاً من الزمن منذ التدشينات الأولى، إذ أن ما يهم الفنان هو فتح المسالك لرؤية نحات يريد إحداث فروق بنيوية في عوالم النحت). بينما أكد الناقد عاصم فرمان (أن الانحياز للمدرسة التجريبية الهندسية، جاء نتيجة للتوافق الروحي بين الفنان ومن تقدم هذه الأشكال الهندسية). في حين أكد الناقد جواد الزيدي (أن التنوع والتعدد في الخامات وطرائق التعامل مع تعدد المرجعيات الجمالية، منح تجربته إضافات نوعية تعد درساً مهماً في نشأة النحت العراقي وامتداداته في المناهج التعليمية والإبداعية على السواء) بينما أشار الناقد قيس عيسى إلى أن الفنان (مارس اعتراضه على كل شيء يُشكل حضوراً قسرياً، سواء كان هذا يشكل جماداً أم كائنات حية، وحتى أنساقاً وأجناساً فنية. تجلى هذا بشكل واضح في منحوتات لها إيحاء هامس لشكل المرأة). كما أكد الناقد صلاح عباس (أن الفنان وعلى مدى تجاربه المختلفة، ساهم في وضع أُسس جديدة في النحت العراقي المعاصر، من خلال تحطيم قواعد الاشتغال النمطية والبحث الدؤوب عن بدائل المواد الخام). وقال الناقد مصطفى العجيل (لقد زاول الفنان عيدان الشيخلي أقصى عمليات الاختصار وصولاً إلى المنهج التجريبي المطلق في بعض الأعمال النحتية). وقد أشار الناقد والمترجم حسين علوان إلى أن أعمال الفنان (تتميز في القدرة على التفرد الأُسلوبي غير المعهود من قبلَه في النحت العراقي، وبالتنوع الثري وبالتجريب الرؤيوي المعبّر وبالإتقان الاحترافي المهيب).
مقتضيات الشكل الفني
علاقة أي نتاج إبداعي بالفكر، أمر يتصل بشكل أو آخر بالصياغة التي تُحقق التفاصيل والبنى الملتحقة بالمتحقق الإبداعي، وبذلك تتحدد رؤية المنتج من خلال أجزاء وتفاصيل الشكل الفني. فهي لازمة تُدير جدلية الوجود الخاص والعام. ولنا في متحقق التاريخ البشري خير أمثلة زاخرة بتلك المعاني والبنى، فهي تعتمد على جدل السبب والنتيجة وفلسفة الوجود وعدمه وتسجل مجريات الواقع المعاش بتفاصيله ومسبباته. ولنا في كل ما تيسر لنا عبر جدران المتاحف من سرديات صيغت على صفحات الطين والحجر بكل دقة ومتانة، أمثلة يمكن دراسة تفاصيلها المبنية على التنوع والإشراق، خاصة في مجال مخاطبة الآلهة وتقديم القرابين وأداء الطقوس المختلفة باعتبارها فعاليات دينية واجتماعية. فالدقة الفنية في الفعل والأداء توحيان بتلك التفاصيل الأدائية، كذلك ما تركه الإنسان من مدونات خصت أساطير الأزمنة والأمكنة. فهي بمثابة سجّل تاريخي، ليس لكونها إبداعاً فنياً فحسب، وإنما كونها مدونات تاريخية حافظت على تشكيلات عصرها ومداوراته الفكرية والميثولوجية. ولنا أيضاً في ما تركه الإنسان من أشكال طوطمية تمثلت من خلالها العلاقة بين البشر، فهي ليست أشكالا فقط، بل إنها مضامين على صيغة أشكال ورموز أصبحت دالات على المعاني التي فاض بها عقل الإنسان الأول. وأنها ـ أي الطوطم ـ مثّلت صورة المعبود الذي يحاول أن يُبعد الضرر عن الإنسان القلق بحكم بيئته التي لم يدركها الإنسان بشكل مباشر، وإنما كانت محاولة لإحداث التوازن في الوجود. فقلق الإنسان دائم في كل الأزمنة والعصور، ولا يتحقق له جزء من الاستقرار سوى عبر علاقته بالمثاليات التي يصنعها خياله المعتمد على بنية فكرية جينية. إذن ومن هذا المبدأ، نرى أننا إنما ننتج مفردات لتحقيق الصلة بالعالم والوجود من باب المعتقد الفكري ـ الجيني أو المكتسب والمعيشي. غير أن هذا النتاج يخضع إلى نوع من الصياغة التي تمثل طبيعة المنتِج للنص بكل أشكاله وجنسه. فعقل الإنسان قادر على اختيار ما يناسب بنيته الفكرية، معتمداً على متخيّل يدفعه نحو تجديد ممارساته الفنية.
ولنا أيضاً في منتج الفنان الفطري منعم فرات، خير مثال على هذا الحراك المرتبط بالعقل، والمدعوم بالمتخيل من الأشكال والتفاصيل الدالة على حركة دائمة لعقل الفنان وهو يواجه الوجود بكل ثقله. كذلك نتاج الفنانين من كل بقاع العالم، سواء كانوا فطريين أو متعلمين يعون ما يقومون به من إنجاز فني. يبقى العمل على تقديم ما يراه الفنان فنياً وموضوعياً مشروعا دائما، دون انقطاع، حيث لا تتوقف حلقات الإبداع عن ضفة مستقرة، بل هي سرديات نحتية دائمة المسير حاملة لجدلية يقينية إزاء عالم متغير سلباً وإيجاباً. المهم أننا نكتشف عمق الرؤى التي يمارس الفنان تطبيقها على أشكاله. الفنان عيدان الشيخلي من هؤلاء الفنانين الذين حققوا سمات هويتهم الفنية، وهي من أصعب الأمور، حيث لا يتم تحقيقها إلا من خلال المثابرة في دراسة المنتج الذاتي والموضوعي، أي مراجعة المنجز مقابل مراجعة منجز الآخر، فهو يعمد عبر استدراج فعاليته الفكرية اختيار مبدأ التحقيق للشكل والتمحور على مبدأ التجاوز واختيار السبيل غير الموطوء. فمنحوتاته ليست أشكالا حاملة للبراعة الفنية والجهد الإنساني فحسب، وإنما حاملة لفعاليات متنوعة يحققها الجسد، معتمداً على جدلية تلك العلاقة بين الفنان وعالمه ومتغيرات الوجود. نرى في أشكاله جملة خصائص، يمكن التوقف عندها للتأكيد على صيرورة ما ينتجه الفنان، وما يؤكده من تحولات فنية تصوغ بناه الفكرية، وحصراً الرؤية الفلسفية لرؤية الجسد، سواء كان ذكورياً أو أُنثوياً، بكل براعة دالة على تأن وصبر أكيدين من أجل تدوين تاريخه الفني عبر صياغة هويته الفنية. وتكون قراءتنا محددة بالآتي، وفق ما تقدمه الأشكال من حركة يمكن تأويلها وفق منظور اجتماعي وإنساني وفلسفي، على اعتبار أن الجسد معطى زاخر بالدلالات والمعاني.
رشاقة الشكل
ونقصد هنا ما يظهر عليه شكل المنحوتة من دقة في صياغة مستلزمات التكامل الذي يدفع بانبثاق صيرورة الدوافع الفكرية التي ساعدت وسارعت في استكمال الخطاب النحتي. ولعل هذا الباب يُلزم الشكل بهذه الرشاقة، والأداء للشكل الذي هو عليه، أو ما تعنيه هذه الرشاقة باعتبارها تُبرّز رشاقة الجسد، سواء كان ذكورياً أو أُنثوياً، فكلاهما يتعرضان للسلامة والانتهاك. وهو ما تعنيه أفكار الفنان الذي ينظر إلى الوجود بمنظار يدفعه للالتزام بما يرى ويعيش ويحس. وفي هذه المداخلة يكون المثال هو الجسد الأُنثوي الذي يُحيل إلى الجسد الآخر. لأننا نميل إلى المعطى الذي يمثله جسد الأُنثى، ابتداء من أسطورة (حواء وآدم) ومقتل هابيل على يد قابيل. فالصراع ابتدأ دائراً من المنطلق الزراعي الذي يعتمد الاستقرار وبناء الحياة، مقابل الرعوي الذي يميل إلى التنقل وعدم إنتاج أثر يمتد مع الأزمنة.
الفنان في أعماله يميل إلى الاهتمام بالجسد الأُنثوي أكثر، لإبراز جملة فعاليات مؤداه ومنها، اثبات الوجود بالتنوع الذي يُظهره الجسد؛ التنوع في المعاني التي تفرز معطى اجتماعيا وفلسفيا وتأريخيا. فالجسد هنا مطلق التعبير والدلالة، والذي يمنحه مثل هذا الأداء هو البناء الفني الذي يمتزج تلقائياً وحسياً مع البنية الفكرية للفنان. فهو منتِج لا يعتمد العفوية ولا القسر المؤدلج، بل يعتمد مزيجاً من الأداء العام ضمن تشكيل أيقونة تتميز بخلاصة الرؤى المتمكنة والمبنية على ذات مدربة على وضع خلاصة منفتحة وقابلة للدراسة المتجددة. وهو ما نعنيه بجدلية الإنتاج والقراءة. ولعل النقاء الذي يحتفي به الجسد الأُنثوي أهم ما هو مجسد في الشكل، منطلقاً أيضاً من الرشاقة الحاملة لكل الخصائص. وما نعنيه هو النقاء الجسدي الذي لم تلوثه تركات الأزمنة والأمكنة، فالجسد هنا متمكن من التعبير عن خاصياته وتعبيره عما يُحيطه، غير متأثر مباشرة بسلبيات الوجود، وإنما يؤسس لوجود قار آخر، أي فرض إرادة قوية ذاتية وموضوعية. لكن الفنان لا يلغي التأثيرات الأُخرى التي تتجاوز الإمكانيات والقوة الذاتية، مجسداً بما يتعرض له الجسد باعتباره موجودا اجتماعيا وإنسانيا ومنتجا للخير، لذا نقف على علامات الاستلاب لهذا الجسد، عبر علامات توحي بما يفرضه المحيط ويؤسس لثقافة ضدية، هي ثقافة تتبلور إلى استلاب الأداء، مجسدة بالمصادرة والمَحق. والفنان هنا يعمد إلى تجنب الوقوع في المباشرة في الأداء، بقدر ما يتركه من أثر يوحي بمثل هذه الفعالية الاجتماعية.
معادلة الوجود
في هذا الباب تبرز فعالية استكمال التعبير من الجسد في اتجاه المحيط المحتوي له. وما نقصده بالمعادلة؛ هو التوازن الموجب للواقع المادي والمعنوي. فالوجود يحمل كفتين تُشيران إلى طبيعة الصراع الدائر في الوجود. إذ من المفترض والموجِب والملزِم لهذا الوجود أن يؤسَس على قاعدة متينة وعادلة. وهو أمر راجع إلى الموكل بحركة الوجود، وفق قوانينه القارّة التي خطتها أخلاقيات إنسانية موروثة، وبعكسه لا يُنتج سوى الخطأ الصانع لكل أخطاء التاريخ التي نعرفها جيداً، ومدى امتدادها إلى الأزمنة الجارية واللاحقة.
ولعل أهم العلل التي يرتكبها الوجود بحق الجسد هو الانتهاك والمصادرة من خلال علامات، ومنها ميكانيكية النظرة وثباتها وتشوشها، التي تهدف الإلغاء غير المتحقق، الذي يمكّن هذه القوى الخفية من أداء فعلها، كاستهداف الجسد الذكوري الذي يشكّل قوة مضافة للأُنثوي الذي يستكمل دائرته كما تقول الأُسطورة الأُولى ومسار التاريخ البشري. فالصراع دائم عبر الأزمنة. وهو مادة الوجود. يمثل هذا في تأخير فعالية العقل المنتج لكل العطاء الإنساني كالحضارات والعطاء الفكري، إذ من السهل قيادة الجسد عند تعطيل العقل بشتى الأساليب، ومنها أساساً الانتهاك وإلغاء الفعالية الوجودية للجسد. تتم هذه الفعاليات الجمالية وتتجسد بالتصرف في طبيعة اللون واشتقاقاته، كذلك طبيعة هندسة الشكل وخصائصه المادية المجسدة باللون والحركة، التي أهم خصائصها الوثوب والاستقامة والرشاقة أيضاً، كما ذكرنا، ثم محاولة الجسد للارتقاء والسمو. فشكل المنحوتة عند الفنان توحي بالحركة إلى الأعلى (السمو) والوثوب ورفض الظهور على ارتخاء نحتي، فالجسد مصدر دائم للعطاء والإكثار والتجدد، وهو ما يهم الفنان في كل منحوتاته، مضافا إلى هذا طبيعة اللون ودلالته القارّة، فالجسد شجرة مثمرة ومعطاء على طول مسيرة البشرية.
طبيعة الشكل الفني
لعل الصلابة التي يظهر عليها الشكل أهم ما يميّز منحوتة الفنان، فالشكل متراصّ مكتمل الحركة ومثير لتنشيط مخيلة المتلقي البصري، يفسح له المجال للتحاور. وهذا يعني ديمومة الحركة والنشاط الفني الصاعد والصلب مع الليونة اللونية. ويتم هذا عبر رموز قد لا تبدو واضحة المعالم، لكنها مؤشرة من خلال الطبيعة التي عليها الشكل. ونعني بذلك موسيقية الشكل الذي ينبني على هارموني خاص أثاره وأسسه الفكر النيّر للفنان وهو يستقبل الوجود بمنحوتاته التي تتعامل مع المواد الخام المتنوعة بتلقائية فكرية وارتخاء موضوعي، يُضاف إليهما موسيقية الشكل ما يكشف عنه الشكل من دالة متخيلة، فالفنان يتخيّل الأشياء، ليس بالمطلق، وإنما بالرصانة الفكرية، إن أهم ما يميّز منحوتات الفنان؛ كونها مكتفية بذاتها وصيرورتها، التي قادت ـ في رأينا ـ إلى الاجتهاد في التلقي، فمن حرص الفنان في إنتاجه يبرز حرص التلقي ورصانته.. وهو مشروع توصل إليه معظم الفنانين.