اليامين بن تومي باحث وأكاديمي وروائي جزائري، يملك رؤية معرفية خاصة ومغايرة للسائد النقدي والفكري في الخطاب العربي المعاصر، وهو من الأقلام النقدية – القليلة – المثيرة للجدل المعرفي المثمر، وللسجال النقدي المنتج؛ كونه يلج إلى مساحات حرجة، يُعمل فيها السؤال النقدي الحارق، ويتبنى الشك المعرفي الفعال وغير الهدام، يقوم بكل ذلك انطلاقا من همّ فكري يرتبط بالراهن. ينخرط بن تومي منذ سنوات في مهمة تجسيد مشروع فكري خاص، يؤخذ على عاتقه مسؤولية الاستئناف النقدي لمسائل عديدة منها الهوية والاختلاف والعلاقة مع الآخر والموقف من التراث العربي، وكيفية محاورة النصوص الكبرى، دون الخوف منها، وتجاوز حالة القحط الفكري والثقافي الذي أصاب الذات العربية عموما والجزائرية خصوصا.
ولهذا فقد كتب في موضوعات عديدة، في النقد الأدبي والدراسات الثقافية، ونقد الخطابات الدينية والفلسفية، ممثلا بذلك شكلا من أشكال الوعي المرتحل، والمتنقل بين المعارف محققا صفة المثقف الموسوعي، التي خفتت في عصرنا هذا، وهو كذلك من الباحثين الذين ينتصرون للتفكير العقلي الهادئ، معتمدا على الخطاب المؤسس على قواعد رصينة مستعينا بخلفيات فكرية عميقة. ويمثل اليامين بن تومي رفقة جيل من الباحثين الجزائريين توجها نقديا وجب الاهتمام به من قبل الدرس النقدي في الجزائر، ونذكر منهم محمد شوقي الزين وعبد الرزاق بلعقروز وفيصل الأحمر ومحمد جديدي ومصطفى كيحل وفارح مسرحي وعبد السلام فيلالي ووحيد بن بوعزيز وسليم حيولة ولونيس بن علي، وغيرهم من الذين يمتلكون مشروعا معرفيا كتابة وترجمة وتدريسا. وهو ما يدفعنا إلى القول بوجوب الاعتراف بهؤلاء وغيرهم وتشجيعهم، وبعث روح المشاركة المعرفية التي هي مسؤولية جماعية بعيدا عن التعصب، أو إطلاق الأحكام العامة كأن نسمع أنه لم يترك السابق للاحق ما يبحث فيه.
وترتبط محاولة اليامين بن تومي في ممارسة النقد الثقافي بنشاطه الفكري المبني على المساءلة المستمرة للأنساق المتصلبة، والانهمام بالكشف عن مواطن الأمراض الثقافية ودورها في عرقلة العقل النقدي العربي والجزائري، عبر مراحل تطوره وهو ما نجده في كتبه العديدة، لاسيما كتابه الرائد «تشريح العواضل التاريخية والبنيوية للعقل النقدي العربي» وكتابه «أمراض الثقافة: قضايا التشويه الكبرى في الجزائر».
يستأنف بن تومي في أعماله الكثيرة إثارة إشكالات تتعلق بمعوقات العقل النقدي والثقافة العربية والجزائرية المعاصرة، انطلاقا من فتح ورشات نقاش مع نصوص وقضايا ذات أبعاد تاريخية وفكرية، خاصة تلك الأفكار التي أفرزتها مرحلة ما بعد الاستعمار.
يستأنف بن تومي في أعماله الكثيرة إثارة إشكالات تتعلق بمعوقات العقل النقدي والثقافة العربية والجزائرية المعاصرة، انطلاقا من فتح ورشات نقاش مع نصوص وقضايا ذات أبعاد تاريخية وفكرية، خاصة تلك الأفكار التي أفرزتها مرحلة ما بعد الاستعمار. وفي سبيل تحقيق هذه المهمة يستعين بن تومي بجهاز قرائي يجمع فيه بين الخبرة النقدية والاطلاع المتمكن على الراهن خاصة الجزائري منه. يستهل الباحث مثلا كتابه «أمراض الثقافة» بمقدمة تعد بمثابة «بيان» للنقد الذاتي الحارق بعيدا عن السرديات الكبرى التي علمتنا الانتفاخ الفكري والسلوكي لسنوات عديدة، ولعل ما يكشف عن هذا النقد الحارق هو الاجتهاد المعرفي مجسدا في محاولة الإجابة عن السؤال الآتي: ما معنى الجزائر؛ في تفكر الفراغ والثقافة؟ مركزا على التمركز من قبل بعض الكتابات والمحاولات حول مقولة «الفراغ» خاصة التاريخي منه، في ضوء الترويج لأولوية السردية الاستعمارية التي تعمل ـ ولا تزال- على فكرة الإزاحة معرفيا وتاريخيا بعدما كانت إزاحة جغرافية وديموغرافية.
يهدف بن تومي في كتابه «أمراض الثقافة» إلى « تناول مجموعة من القضايا المتباعدة لكنها تصب جميعا في بناء تصور لتفكر الثقافة الوطنية، وفهم إحراجاتها العميقة، حيث يناقش على مدار ثلاثة فصول الأبعاد الجوهرية للأزمات التاريخية والتربوية والثقافية المختلفة في الفرد، أو في الشخصية الوطنية، بل نطرح الأسئلة الحارقة من قبيل لماذا لم نؤسس لنهضة جذرية؟ ما هي الموانع التي حالت دون تأسيس دولة حداثية تقوم على تقديس الفرد، وتتجاوز جميع أشكال التعصب للجهة والقبيلة والحزب؟ (أمراض الثقافة).
يفتح الباحث في ضوء هذه الأسئلة ورشات للتفكر، مستعينا برؤية عميقة تخص بنية المجتمع الجزائري عبر مسار تطوري أنتجته الوضعية الجزائرية ما بعد الاستعمارية. هذه البنية التي لم تتخفف أثناء تشكيلها من العبء التاريخي الذي خلفه الاستعمار الفرنسي، لمدة تربو على القرن وربع القرن، ما جعل مهمة التأسيس لوعي جزائري مشبع بالثقافة الوطنية من الأمور الصعبة في مسار البناء والتطور. ويناقش بن تومي قضية التنوير وعلاقته بمشروع الشيخ البشير الإبراهيمي حين يعده حدثا «لم ينقطع كتجربة، بل لا يزال يتلاحق في وعينا لنبني تنويرا خاصا هنا، وأن لا يظل سؤال التنوير مسألة أرشيف يحتاج فقط إلى نفض الغبار عنه، بل يحتاج إلى توسعة للفضاء، وإلى خلق الممكنات القصوى لإزاحة الطبقات الرسوبية الأولى، لخلق أنوار جديدة تخصنا، وهي أنوار استمرارية وليست قطائعية»(أمراض الثقافة). يرى اليامين بن تومي أن مشروع التنوير والتطوير الثقافي في الجزائر المستقلة عبر عقود، استند إلى فكرة القطيعة بين السابق واللاحق، وعدم تجسيد عقلية الاستمرارية ومرونة التحول من وضعية إلى أخرى، ما أنتج براديغم التصلب في التعامل مع القضايا الكبرى للمجتمع. ويغوص الباحث في الخطاب التنويري للبشير الإبراهيمي، مستنبطا حدود الفضاء المعرفي الذي يجسد هذه العلاقة الممكنة بين الأنوار ومشروع الإبراهيمي ذي البعد الإصلاحي، ويُجمل هذه الحدود في مقولات المساواة والحرية والعقلانية، وهو بذلك يقدم حفرا معرفيا في الخطاب الإصلاحي للبشير الإبراهيمي الذي كثيرا ما فُهم بطريقة سطحية وبشكل احتفائي، بعيدا عن وضعه تحت مجهر المساءلة المعرفية والمنهجية، مما يثير بعض التحفظات حول إمكانية وجود العلاقة بين وضعية أو حالة الأنوار والخطاب الإصلاحي عند الإبراهيمي، وهو سرعان ما يجيب عنه بن تومي من خلال قوله: «يفرض علينا مبدأ بداية أن نتفكر وضعية الإبراهيمي، أي أن نعلق كل حكم سابق أسهم في تعالي الشيخ وجعله فوق النقد… فعملي تخليص صورة البشير الإبراهيمي من كل الصور النمطية لتوسيع التجربة، وتخليصنا نحن من الأسباب التي قد تجعلنا مقلدين لا مبدعين». ولا تعد الأنوار بالنسبة إلى اليامين بن تومي مجرد مسافة أو مرحلة تاريخية، بل هي عبارة عن تفكر دائم، إذ يجب أن نستفيد كما يقول هو نفسه من وصايا التنوير بما يمكننا أن نضيء ظلماتنا…
ولعل أس تحقق اللحظة الأنوارية يتطلب وجود فاعلين اجتماعيين يملكون وعيا تاريخيا مطلوبا، كما يقول بن تومي، ما يفتح المجال مجددا لاستمرارية النقد كونه آلية تتصدى ضد كل أشكال الفعل الدوغمائي، عن طريق العودة إلى خلق فكر نقدي قلق يفتح دائما النوافذ على بعضها بعضا، بعيدا عن سلطة الفكر الجاهز والمقولب. فـ»النقد يمكن من بناء تصور متفرد للعالم، ويمكن أن نقطع مع الفهوم السابقة لبناء فهمنا الخاص، من خلال تجاوز التجربة السابقة وتوسعة مجال التجربة الوطنية للخروج من كلّ التي في ممكنها تحجيم تصورنا للعالم» (مقال اليامين بن تومي من كتاب جماعي محمد البشير الإبراهيمي وآفاق الحداثة). ويشترط اليامين بن تومي في حالة تخليص التاريخ من أشكال الوعي الزائف من تحرير الإنسان من الأوهام وتحرير الأرض من المغتصب، وتحرير الوعي من الزيف التاريخي الذي قد يلحقه، والتحرر من جميع أشكال الدوغمائيات والإكليروسات والجهل المقدس. ويجسد اليامين بن تومي صفة الناقد المختلف وهي صفة تقوم على آلية الفحص النقدي، باعتباره أساس النقد الثقافي الذي يبحث في أشكال الثقافة وطرق هيمنتها عبر تكريس مجموعة من الأنساق داخل الحياة الاجتماعية، التي تخلف أيضا أمراضا تصيب الذات على المستويين النفسي والرمزي.
كاتب جزائري