مع طه جزاع في «أيامه الإسطنبولية»

{title}
همزة وصل   -
عبداللطيف السعدون 

لم يكن طه جزاع الكاتب والصحافي والباحث الأكاديمي، العاشق الوحيد لمدينة إسطنبول، والراوي عنها ولها، فقد سبقه كثير من كتاب وشعراء وروائيين وفنانين، كما لحق به آخرون ممن ألهمتهم إسطنبول روايات أو قصائد أو حكايات عشق لم يكفوا عن سردها هنا أو هناك، وقد ظلت المدينة بتاريخها وجغرافيتها مختزنة في أعماقهم كما يختزن أي عاشق ولهان صور حبيبته الغائبة الحاضرة التي تتداعى إلى مخيلته صباح مساء.
وإذا كان شاعر فرنسا الفونس دو لإمارتين، قد أعلمنا أنه إذا لم يمنح المرء سوى نظرة واحدة يلقيها على العالم لتوجب عليه أن يحدق في إسطنبول، فإن جزاع لم يكل ولم يمل من التحديق في إسطنبول فحسب وإنما خبأها في عينيه، وأطبق عليها جفنيه، وكأنه كان يريدها لوحده، ويرفض أن يشاركه فيها أحد سواه، كان يتملاها وهو يجول في مدن الدنيا، متنقلا بين شوارعها ومعالمها وآثارها، ينثر فيها روح إسطنبول ورائحتها حبة حبة لدرجة أنه نقل لنا في كتابه الأخير حكايات عن العديد من المدن، والشخصيات، والكتب، والأحداث، ووقائع مختلفة ومتنوعة لكنه لم يجد في نهاية مطافه سوى أن يسبغ عليها كلها روح إسطنبول ورائحتها، وإن لم يكن بعضها مزروعا في إسطنبول، وأن يعطي عنوان كتابه صفة «الأيام الإسطنبولية» وخص إسطنبول نفسها بنشر الطبعة الأولى من كتابه فيها، «الأيام الإسطنبولية»- دار خواطر للطباعة والنشر- إسطنبول- 2023. وواضح من كتابه هذا أن إسطنبول ذاتها كانت تتبعه الى أي مكان، ومن شدة تعلقه بها لم يجد عالما آخر، ولا بحرا آخر غيرها، تماما مثل شاعر اليونان قسطنطين كفافيس في قصيدته المأثورة.
حكايات طه جزاع مرايا لأحداث ووقائع وشخصيات ومدن يعالجها ويتعامل معها بأريحية فائضة، تشعرك بهالة من السحر، تتعرف من خلالها إلى خالد أحمد زكي الشاب العراقي الذي عمل مع الفيلسوف البريطاني برتراند رسل ناشطا في الدعوة للسلام ومناهضة الحروب، ثم عاد الى العراق ليؤسس لتجربة «الكفاح المسلح» في الأهوار، والروائي الأوكراني نيكولاي أوستروفسكي صاحب «كيف سقينا الفولاذ» والذي تسببت حرب أوكرانيا الماثلة في تفكيك نصبه التذكاري، ثم ليقص لنا كيف التقى ابن بطوطة بالإمبراطور اليوناني أندرو نيكوس الثالث في مقره في القسطنطينية، وحكاية عشق الروائي والرحالة الفرنسي بيير لوتي لامرأة تركية أثناء إقامته في منزل يطل على خليج القرن الذهبي في مدينة إسطنبول، ولا ينسى أن يذكرنا بأبي العلاء المعري الذي لفت نظره في مدينة اللاذقية السورية ظاهرة تجاور المساجد والكنائس جنبا إلى جنب، وانعطف جزاع ليحدثنا عن «التغريبة» السورية إلى تركيا بعد ما حصل في المنطقة من أهوال في العقد الأخير، ثم ليعود إلى بغداد، عاصمة الملوك والباشوات، لينقل لنا طرفا من الحياة فيها أيام زمان، وليصل بنا إلى مذبحة 14 تموز/يوليو 1958 التي أدخلتنا في نفق طويل ما زلنا نعاني من تبعاته إلى اليوم، وبين هذه وتلك من الحكايات يأخذنا إلى لقطات يقترب فيها من الفلسفة والفكر الإنساني، وهو معروف عنه أكاديميا اهتمامه بذلك، وله أبحاثه وكتبه المعلومة في أكثر من مجال..
المتعة التي يوفرها لنا طه جزاع في حكاياته تخرجنا من واقعنا المسطح والرتيب، وتفسح المجال أمامنا للدخول في عوالم المخيلة والحلم، وتعرض لنا الحياة بقوتها وضعفها، بسطوعها وعتمتها، وهذا ليس سوى جزء من القصة، الأكثر من ذلك أنها تجعلنا نراجع مع أنفسنا كل ما رصده لنا في تعامله مع الشخصيات والأماكن والاحداث التي مرّ بها أو مرت به.
ميزة أخرى في كتاب «الأيام الإسطنبولية» أنك تشعر وأنت تقرأ فيه بأنك تتعامل ليس مع كاتب يغامر في السير بين المتعرجات والعوائق ونقاط الاشتباك فحسب إنما أيضا مع قارئ جاد للكتب، وللحياة أيضا، ويبدو أنه تعلم، من تجربته العريضة، أن يقرأ كل شيء مكتوب يصادفه في سيره اليومي، يذكرني ذلك بكاتب من البرازيل شارك في ندوة كنت أحد حضورها، سأله صحافي عما يقرأه، أجاب: «إنني أقرا، قراءة نشيطة، كل ما أصادفه، كل شيء من نصوص الأطفال إلى الكلاسيكيات العالمية، إلى الروايات، إلى الفلسفة، إلى الشعر.. إلى.. إلى.. وأحس بالغبطة مع ما تحمله لي تلك القراءات من جديد أضيفه إلى تجربتي في الكتابة والحياة». إنه شغف القراءة الذي يؤدي إلى شغف الكتابة، هذا الدرس يقدمه لنا أيضا طه جزاع عبر مغامرته الإسطنبولية المثيرة التي لا تدعك تترك الكتاب قبل أن تصل الى غلافه الأخير.

كاتب عراقي

© جميع الحقوق محفوظة لهمزة وصل 2024
تصميم و تطوير