من أين تبدأ الذكريات؟ العلماء يعثرون على المفتاح

{title}
همزة وصل   -
لا يتذكر الإنسان تاريخ حياته في صورة شريط متصل من الذكريات، بل في شكل مقاطع منفصلة يعبر كل منها على "لحظة ذات مغزى جديرة بالتذكر"، كما لو كانت عبارة متصلة يتم تقسيمها بواسطة علامات ترقيم متتابعة.
ولعل هذه الطريقة في التذكر هي التي تساعدنا على الاحتفاظ بتفاصيل وأحداث معينة في أذهاننا بشكل واضح ومرتب، حتى يتسنى لنا استرجاعها وقت الحاجة إليه.
وقد يتبادر إلى ذهن البعض أن هذه المهمة الشاقة تتطلب تفعيل عدد ضخم من خلايا المخ أو قدر هائل من الطاقة الذهنية، ولكن دراسة بحثية جديدة توصلت إلى أن هذا المهمة بالغة الأهمية تنهض بها مجموعة صغيرة من الخلايا العصبية في جذع المخ تعرف باسم Locus Coeruleis أي "البقعة الزرقاء".
وفي إطار الدراسة التي نشرتها الدورية العلمية Neuron المتخصصة في طب الأعصاب، قام فريق من أطباء النفس بجامعتي كاليفورنيا لوس أنجليس وكولومبيا بالولايات المتحدة بتوظيف تقنيات تصوير المخ وقياس درجة اتساع حدقة العين للتيقن من وظيفة "البقعة الزرقاء" باعتبارها مفتاح التحكم في الذكريات داخل مخ الانسان.
ويقول الباحث ديفيد كليويت استاذ علم النفس بجامعة كاليفورنيا لوس انجليس ورئيس فريق الدراسة إن "السؤال الرئيسي الذي تتمحور حوله الدراسة هو عندما يتعرض الانسان لتجربة ما، كيف يعرف المخ أن تلك اللحظة الأولى التي سجلها في خانة الذكريات قد انتهت، ومتى سوف تبدأ اللحظة التالية".
وقد أثبتت الدراسات أنه في حالات السياق المتصل، مثل التواجد في نفس الغرفة لفترة طويلة بدون حدوث متغيرات، يقوم المخ بتسجيل الحدث باعتباره ذكرى متصلة، ولكن في حالة حدوث أي متغير، تبدأ الذاكرة في تقسيم تلك الأحداث إلى ذكريات منفصلة.
وفي هذه الحالة، تبدو الذكريات مثل عبارات قصيرة تفصل بينها علامات ترقيم في موضوع إنشائي طويل. ويوضح كليويت في تصريحات للموقع الإلكتروني "سايتيك ديلي" المتخصص في الأبحاث العلمية أنه من هذا المنطلق، يمكن توصيف البقعة الزرقاء باعتبارها وسيلة ترقيم أفكارنا وذكرياتنا داخل المخ". وفي إطار التجربة التي شارك فيها الباحثان رينجو هوانج من جامعة كاليفورنيا لوس أنجليس وليلا دافاشي من جامعة كولومبيا، تم اطلاع 32 متطوعا على صور لأغراض محايدة مع إخضاعهم لعملية تصوير بالرنين المغناطيسي للمخ. ومن أجل تحفيز الشعور بتغيير السياق، عمد الباحثون إلى تشغيل مقاطع صوتية بسيطة في الأذن اليمني أو اليسري بالتتابع لدى المتطوعين.
وعند تشغيل نفس المقطع ثماني مرات في الأذن اليمني للمتطوعين، لم يحدث لديهم أي تغييرات في النشاط العقلي تعبر عن تكوين ذكريات منفصلة.
ولكن عند تغيير المقطع الصوتي أو تشغيله بشكل متتابع في الأذن اليمني ثم اليسرى، تم رصد تغييرات معينة في النشاط العقلي تعبر عن تسجيل أحداث سمعية منفصلة.
وأكد الفريق البحثي رصد زيادة في نشاط "البقعة الزرقاء" أثناء الفواصل بين عملية تكوين الذكريات المنفصلة.
ومن أجل التحقق من صحة هذه الملاحظة، قام الباحثون بقياس درجة اتساع حدقة العين أثناء الانتقال من مقطع صوتي لآخر لدى المتطوعين نظرا لأن درجة اتساع الحدقة عادة ما يرتبط بتفعيل نشاط البقعة الزرقاء.
وقد تأكد للباحثين بالفعل من خلال صور الرنين المغناطيسي زيادة معدل تدفق الدم إلى تلك المنطقة من الخلايا العصبية في نفس وقت اتساع حدقة العين عند تسجيل ذكريات جديدة مع تغير سياق الأحداث لدى المشاركين في التجربة.
وذكر الباحثون أن وظيفة "البقعة الزرقاء" تتجاوز عملية التقسيم المبدئي للذكريات داخل المخ، حيث أن زيادة نشاط هذه الخلايا يقترن بتنشيط منطقة أخرى في المخ تعرف باسم hippocampus أي الحصين، وهي المسؤولة عن فك شفرات الذكريات الجديدة ووضعها في سياق معلوماتي مثل توقيتها وموقع حدوثها على سبيل المثال.
وتوضح الباحثة دافاشي أن "من بين وظائف الحصين رسم خريطة للذكريات، كما لو كانت فهرس لتحديد بداية ومنتصف ونهاية كل حدث بعينه، ولقد وجدنا أن البقعة الزرقاء هي التي تعطي إشارة البدء لتشغيل الحصين، كما لو كانت تقول /نحن الآن في مستهل حدث جديد".
ويقول الباحثون إن دفقات النشاط العصبي في منطقة البقعة الزرقاء يساعد في إعادة تكوين الشبكات العصبية للمخ لتوجيه الانتباه إلى التجارب الجديدة والمهمة في الحياة. ويقول كلويت إنه يمكن وصف البقعة الزرقاء كما لو كانت نظام إنذار داخل للمخ، مضيفا أن هذه المنظومة "قد تتعرض للنشاط المفرط في حالات التوتر المزمن كما لو كان نظام إنذار من الحريق يعمل بشكل دائم بحيث يصبح من الصعب على الشخص أن يلتفت في حالة نشوب حريق حقيقي".
وفي إطار التجربة، قام الباحثون بقياس تأثير الدفقات المستمرة لنشاط البقعة الزرقاء في حالات التوتر المزمن، عن طريق قياس معدل إفراز النيوروميلانين، وهي مادة كيميائية عصبية تتراكم في البقعة الزرقاء مع استمرار تحفيزها بمرور الوقت.
وتبين للباحثين أنه مع استمرار التوتر، تتراجع استجابة البقعة الزرقاء وآلية اتساع حدقة العين مع تغيرات الأحداث التي يتعرض لها الشخص، بمعنى أن النشاط المفرط لتلك المنطقة من المخ يؤدي إلى تعطيل قدرتها على تمييز الذكريات المتغيرة والفصل بينها.
ويرى الباحثون أن هذه الدراسة تفسح المجال أمام علاج بعض الاضطرابات التي تسبب الإنهاك للجهاز العصبي والمخ، وهو ما قد يساعد في تحسين جودة حياة هؤلاء المرضى وذويهم، لاسيما بعد أن تبين أن لاعباً صغيراً داخل المخ قد يكون له تأثير كبير في طريقة فهمنا واستيعابنا لذكريات حياتنا".
© جميع الحقوق محفوظة لهمزة وصل 2024
تصميم و تطوير