شجرة السَّمُر في أودية العقبة ووادي عربة الجنوبي: هوية بيئية مهددة وذاكرة مكان

{title}
همزة وصل   -
كتب أ.د. محمد الفرجات ... في أودية العقبة الممتدة بين الجبال، من وادي اليتم إلى تتن، مرورًا بالأودية المتفرعة في وادي عربة الجنوبي، تقف شجرة السَّمُر (Acacia tortilis) شاهدًا حيًّا على تاريخ طبيعي طويل، وعلى قدرة مذهلة على التكيف مع أقسى البيئات الجافة في الأردن.
هذه الشجرة ليست مجرد غطاء نباتي عابر، بل عنصر أصيل من هوية العقبة البيئية والثقافية والتاريخية، وركن أساسي من منظومتها الطبيعية الهشة.

أولًا: السَّمُر… شجرة المكان والزمان...
تنتمي شجرة السمر إلى جنس الأكاسيا، وهي من أقدم الأشجار الصحراوية في المنطقة، وقد رافقت الإنسان في جنوب الأردن منذ آلاف السنين.
تتميز بـ:
أوراقها الريشية الدقيقة، التي تقلل الفقد المائي.
أشواكها الحادة، كآلية دفاع طبيعية.

جذورها العميقة جدًا، التي قد تصل إلى عشرات الأمتار بحثًا عن المياه الجوفية أو الرطوبة المتبقية في الطبقات العميقة.

إن وجودها في الأودية العميقة وبين الجبال ليس صدفة، بل يعكس فهمًا طبيعيًا دقيقًا لمسارات السيول القديمة، والرسوبيات، واستقرار التربة.

ثانيًا: التوزيع الجغرافي في العقبة ووادي عربة...
تنتشر شجرة السمر في:
أودية العقبة الشرقية والغربية.
وادي اليتم وروافده.
منطقة تتن.
وادي عربة الجنوبي حتى الحدود الجنوبية.

وتتركز غالبًا:
على جوانب مجاري السيول.
عند مداخل الأودية.
في مناطق الترسيب النهري القديم.

وهذا يجعلها مؤشرًا بيئيًا وجيومورفولوجيًا مهمًا على:
وجود مياه جوفية عميقة.
نشاط سيولي تاريخي.
استقرار نسبي في النظام الرسوبي.

ثالثًا: الحاجة إلى الإحصاء والتوثيق العلمي...
رغم أهميتها، لا يوجد حتى اليوم مسح وطني دقيق يحدد:
عدد أشجار السمر في أودية العقبة.
أعمارها التقديرية.
مواقعها الدقيقة (GIS).
حالتها الصحية.
علاقتها بالبيئة المحيطة (التربة، المياه، السيول، التداخل البشري).

المطلوب علميًا:
إجراء إحصاء ميداني شامل.
استخدام نظم المعلومات الجغرافية (GIS).

تصنيف الأشجار حسب:
العمر التقريبي (صغيرة – متوسطة – معمّرة).
الحالة الحيوية.
مستوى التهديد.

إن بعض أشجار السمر في وادي عربة يُرجّح أن عمرها يتجاوز 200–300 عام، ما يجعل فقدانها خسارة لا يمكن تعويضها.

رابعًا: التهديدات المتزايدة:
تواجه شجرة السمر في العقبة تهديدات حقيقية ومتراكمة، أبرزها:

1. التحطيب الجائر...
لا تزال تُستهدف لأغراض الوقود أو الاستخدامات التقليدية، رغم بطء نموها الشديد.

2. الحرق المتعمّد أو غير المتعمّد...
خصوصًا قرب التجمعات أو مواقع الرعي.

3. سكب الأنقاض ومخلّفات البناء في الأودية...
وهو الخطر الأخطر، إذ:
يدفن الجذور.
يغيّر مسار السيول.
يخنق النظام البيئي المحيط.

4. التوسع العمراني العشوائي
دون مراعاة للأودية كنظم بيئية حيّة.

خامسًا: السَّمُر كرمز ثقافي وهوية مكان، ففي الذاكرة الشعبية لأهل العقبة ووادي عربة:
السمر شجرة الظل والنجاة.
ارتبطت بالقوافل، والرعاة، والمسافرين.

شكلت نقطة استراحة، وحدًّا طبيعيًا للأودية. وهي اليوم تمثل:
هوية بيئية جنوبية.
رمزًا للاستدامة والصبر.
عنصرًا يمكن توظيفه في السياحة البيئية والتعليم البيئي.

سادسًا: لماذا حمايتها ضرورة وطنية؟
حماية شجرة السمر ليست ترفًا بيئيًا، بل:
حماية للتربة من الانجراف.
دعم للتنوع الحيوي (الطيور، الحشرات، النحل).
مساهمة في التخفيف من آثار التغير المناخي.
حفاظ على ذاكرة طبيعية وثقافية لا تُقدّر بثمن.

سابعًا: نحو برنامج وطني لحماية السمر في العقبة... نقترح:
إعلان أودية السمر مناطق حساسة بيئيًا.
منع التحطيب والحرق وسكب الأنقاض قانونيًا وتطبيقيًا.
إطلاق مشروع توثيق علمي تشارك فيه الجامعات.

إدماج السمر في:
المسارات السياحية البيئية.
المناهج التعليمية.
مبادرات "عمدة المناخ” والبلديات.

شجرة السمر في أودية العقبة ليست مجرد شجرة… إنها وثيقة حيّة، تقرأ من خلالها تاريخ الماء، والإنسان، والمكان.
وإذا فقدناها، فلن نفقد غطاءً نباتيًا فحسب، بل جزءًا من هوية العقبة وذاكرتها العميقة.

حمايتها اليوم، هي احترام للمكان، ومسؤولية تجاه الأجيال القادمة.
© جميع الحقوق محفوظة لهمزة وصل 2024
تصميم و تطوير