قصة قصيرة .... "الظل" للأديبة الدكتورة: ناهد سويلات

{title}
همزة وصل   -
لماذا تجلس وحدك كل ليلة فى هذه الزاوية دون أن يشعر بك أحد؟
ابتسم سليم وأجاب: لأني شغوف بالقصص التي يرويها الناس دون أن يشعروا بي.
وأنت ماسبب وجودك هنا؟
أنا درست علم النفس، ورواد القهوة نماذج مختلفة مما درستهم، الفضول  اختصر المسافة بين سليم ومرام، فتحدثت عن أحلامها وطموحاتها، ومع مرور الوقت، اكتشفت أن سليم يحمل الكثير من الحكمة، وأنه يرى العالم بطريقة مختلفة، يروي لها قصصًا عن الحياة، الحب، والفقد.
بين رجال ونساء من مختلف الأعمار  يشاركوهم الجلوس على مقهي "ظل القمر" يتبادلون الأحاديث، ويرتشفون القهوة، لكن فى أحد زوايا المقهى الصغير يجلس سليم كل مساء، يقرأ كتباً قديمة
تدور حوله الشائعات، يعرفه البعض كاتباً مشهورًا، لكن حدثت له مأساة جعلته يبتعد عن الأضواء، كان ينظر إلى الزبائن بنظرات عميقة، وكأنما يرى في أعماقهم شيئًا لا يراه الآخرون.
ومرام تبحث عن معنى لحياتها المليئة بالروتين، وهي تحاول التسلق على اسوار الصمت المطبق على عيون سليم،  بدأت تلاحظ تغييرات في سليم. كان يبدو حزيناً أكثر من المعتاد، وكأنما يعاني من صراع داخلي. في إحدى الليالي، قررت أن تسأله: "ما الذي يؤلمك؟".
تردد سليم للحظة، ثم قال: "أحيانًا، نعيش في ظلال ذكرياتنا، ولا نستطيع الهروب منها. أحيانًا، يكون الظل أغمق من الواقع".
بعد تلك الليلة، اختفى سليم من المقهى. ترك وراءه كتابه القديم، الذي كان مليئًا بالقصص والحكايات. أخذت مرام الكتاب وبدأت تقرأ، وكأنما كانت تسعى لفهم ذلك الرجل الغامض.
ومع كل صفحة، كانت تدرك أن الظل قد يكون جزءًا من هويتنا، لكنه ليس كل ما نحن عليه. تعلمت أن مواجهة الظلال هي الخطوة الأولى نحو النور.
بدأت في كتابة قصصها الخاصة، مستلهمة من سليم، وقررت ألا تدع الظلال تحدد مصيرها.
بدأت مرام في الكتابة. كل مساء، كانت تجلس في مقهى "ظل القمر" وتدوّن أفكارها وأحلامها، ومع كل حرف جديد تحاول تتكشف لها أعماق نفسها. كانت تكتب عن تجاربها، وعن سليم، وعن الأشخاص الذين قابلتهم في حياتها. ومع كل قصة، كانت تشعر بأن عبئًا ثقيلًا يخف قليلاً.
ومع الوقت تنشر مرام قصصها في المجلات المحلية التي لاقت استحسانًا من القراء، وأصبحت تُعرف ككاتبة واعدة في مجتمعها. ومازال قلبها مخيم بالحزن. وتشعر أن سليم لا يزال يعيش في ظل ذكرياتها.
ذات ليلة، بينما كانت تجلس في المقهى، جاء شاب يحمل كتاب سليم. اقترب منها وسأل: "هل تعرفين سليم؟". 
ارتجفت مرام، وأجابت: "نعم، كان هنا، لكنه اختفى". 
قال الشاب: "لقد كان أستاذي. كان يتحدث عن الحياة بشكل مختلف، لكنني لم أفهمه إلا بعد رحيله". 
أخبرها أنه يعكف على إنهاء رواية مستوحاة من دروس سليم. تبادل الاثنان الأفكار، وبدأت مرام تشعر بأن سليم لا يزال حاضرًا، من خلال تأثيره على الآخرين.
قررت مرام أن تنظم أمسية أدبية في المقهى، لتحتفي بسليم وتشارك قصصه مع الناس. دعت الكتاب والمبدعين، وأصبح المقهى مليئاً بالقصص والأصوات. كانت تتحدث عن كيفية تأثير سليم على حياتها، وكيف أنها تعلمت أن الظلال ليست سوى جزء من الحياة.
في تلك الأمسية، بينما كانت تتحدث، شعرت بشيء غريب. كان هناك شخص يقف في الزاوية، يراقبها. وعندما نظرت جيدًا، أدركت أنه سليم، بشكله القديم، ولكن بنور مختلف. لم يكن ظلاً، بل كان جزءًا من الإلهام الذي دفعها للكتابة.
بعد انتهاء الأمسية، اقتربت مرام من الزاوية حيث كان يقف. لكنه اختفى كما ظهر. ومع ذلك، شعرت بسلام داخلي. أدركت أن سليم لم يكن سيظل يراقبها كما تراقب مرام خياله.

استمرت مرام في الكتابة، واكتشفت أن كل قصة تكتبها هي خطوة نحو النور. كانت تعلم أن الظلال قد تظهر، لكن الإبداع هو ما يسمح لنا بتجاوزها. 
وفي كل مرة كانت تدخل المقهى، كانت تشعر بحضور سليم، وكأنما يقول لها: "استمري في الكتابة، فالحياة مليئة بالقصص، والقصص هي ما تجعلنا أحياء". 
استمرت، مع كل صفحة جديدة تكتبها، كانت تدرك أن الظل ليس نهاية، بل بداية جديدة
استمرت مرام في تنظيم الأمسيات الأدبية، وجذبت المزيد من الكُتّاب والشعراء إلى "ظل القمر". أصبح المقهى مركزًا ثقافيًا حيويًا، حيث يتجمع فيه الناس لمشاركة أفكارهم وقصصهم. ومع مرور الوقت، بدأت مرام تلاحظ تغييرات في الحي. لم يعد مجرد مكان عابر، بل أصبح نقطة التقاء للذين يسعون للحديث عن أحلامهم ومخاوفهم.
ذات مساء، بينما كانت تلقي قصتها الجديدة، شعرت بأن الكلمات تتدفق منها بشكل طبيعي، وكأنما تتحدث بصوت سليم. كانت تتحدث عن الأمل والفقد، وكيف أن التحديات لا تعني نهاية الطريق، بل بداية جديدة. تفاعل الجمهور معها بشكل كبير، وكانت عيونهم تتلألأ بالإلهام.
بعد انتهاء الأمسية، اقترب منها أحد الحضور، شاب يُدعى "علي"، وأخبرها أنه كان يواجه صعوبات في الكتابة، لكنه وجد في قصصها دافعًا ليبدأ من جديد. تبادل الاثنان الأفكار والنصوص، وبدأت مرام تشعر بأنها ليست وحدها في هذه الرحلة.
مع مرور الوقت، نشأت صداقة عميقة بين مرام وعلي. كانا يجلسان معًا، يتحدثان عن الحياة، الكتابة، والأسئلة التي لا إجابة لها. كان علي يعبر عن مشاعره بصراحة، مما ألهم مرام لمواجهة مخاوفها الشخصية.
في أحد الأيام، قررت مرام أن تعيد قراءة الكتاب القديم الذي تركه سليم. بينما كانت تقلب صفحاته، عثرت على ملاحظات مكتوبة بخط يده. كانت أفكارًا حول القدرة على التغلب على الظلام، وكيف أن كل تجربة، سواء كانت جيدة أو سيئة، تشكل جزءًا من هويتنا.
أحست مرام  بأن سليم كان يرافقها في كل خطوة، وأنه لا يزال يؤثر في حياتها. قررت أن تأخذ تلك الملاحظات وتدمجها في روايتها الجديدة، التي كانت تستعد لنشرها. كانت تريد أن تروي قصصًا عن الأمل والشجاعة، وتظهر كيف يمكن للناس أن يجدوا ضوءًا في أحلك اللحظات.
عندما أصدرت روايتها، كانت تحتفل بذكرى سليم. وعندما وقعت الكتاب للقراء، شعرت بشعور عميق من الامتنان. لم تكن قصتها مجرد كلمات على صفحات، بل كانت تجسيدًا لتجربتها الشخصية، ولتأثير سليم، وللناس الذين ساعدوها في رحلتها.
في تلك الليلة، بينما كانت عائدة إلى منزلها، توقفت أمام المقهى. نظرت إلى الضوء الدافئ المنبعث من الداخل، وتذكرت كل لحظة قضتها هناك. شعرت بأن الظلال التي كانت تخيفها قد تلاشت، وأنها وجدت طريقها نحو النور.
© جميع الحقوق محفوظة لهمزة وصل 2024
تصميم و تطوير