«الغول» رؤية سينمائية ساخرة عن مُحاكمة الظلال وبراءة المُجرمين

{title}
همزة وصل   -
كمال القاضي 

في عام 1983 كان لا يزال تأثير حادث اغتيال الرئيس السادات ساري المفعول، والحديث عن الملابسات السياسية ودواعي الاغتيال قضية كبرى تشغل الرأي العام المصري والعربي، وربما العالمي أيضاً.
لهذا استوحى الكاتب والسيناريست وحيد حامد فكرة فيلمه «الغول» من تداعيات ما حدث، وربط الأحداث بما سماه قانون ساكسونيا، وهو القانون الذي كان سائداً في ألمانيا إبان العصور الوسطى في ولاية ساكسونيا تحديداً، حيث كان يُمثل القانون الغريب مُفارقة شديدة القسوة، فهو يقضي بتطبيق حُكم الإعدام على ظل القاتل، دون شخصه، خاصة إذا كان مُرتكب جريمة القتل من طبقة النبلاء، بينما يتم إعدام القاتل فعلياً إذا كان رجلاً بسيطاً من عامة الشعب. هذه الفكرة العنصرية استلهمها الكاتب ونسج منها أحداث الفيلم السياسي الاجتماعي المهم، بعد أن حقق المسلسل الإذاعي الذي حمل العنوان نفسه «قانون ساكسونيا» للمخرج مصطفى أبو حطب نجاحاً لافتاً للغاية إبان إذاعته لأول مرة. وقد أثير حول الفيلم جدل واسع، رغم أنه يُشير إلى اختلال موازين العدالة في أزمنة غابرة في ألمانيا القديمة وليس في مصر، لكن لأن لغة الفن والإبداع دائماً ما تحمل بعض الإسقاطات الرمزية، ولا تعرف مُحيطاً اجتماعياً أو سياسياً مُعيناً، فغالباً ما يُخشى من تأثيرها في المُتلقي مهما اختلفت المعايير والمقاييس والمحيطات الجغرافية.

ولسوء حظ الفيلم أنه عُرض بعد حادث المنصة بفترة وجيزة لا تتعدى العامين، ما استنفر في حينه الجهاز الرقابي للمُصنفات الفنية ودفعه للمُطالبة بتغيير مشهد النهاية الذي اغتيل فيه البطل «فهمي الكاشف» (فريد شوقي) باعتباره مُتشابهاً مع مشهد اغتيال الرئيس السادات. وبناءً على المفهوم الخاص للرقابة وتشددها في الحُكم على الفيلم انتقدت الأقلام النقدية والصحافية آنذاك الموقف الرقابي بحدة فأكسبت الفيلم ذاته أهمية قصوى ليظل واحداً من أعمال عادل إمام الجيدة والمتميزة والمحسوبة له كفنان ونجم، ذلك أن الأحداث الدرامية في مُجملها أشارت بقوة إلى مساوئ الانفتاح الاقتصادي، ونفوذ رجال الأعمال الذي تخطى كل الحدود المسموح بها إلى درجة تجاوز القانون بشكل صريح، حيث تكونت بفعل السياسات الاقتصادية الخاطئة، إمبراطوريات ضخمة وقلاع استعصى على سُلطة الصحافة اقتحامها، بعدما صارت مُحصنه من كبار المسؤولين في الدولة. كان هذا هو المحور الرئيسي للفيلم الذي شاركت في بطولته نيللي بدور مذيعة دخلت المجال الإعلامي بالوساطة والمحسوبية، وبنفوذ والدها رجل الأعمال فهمي الكاشف، لكن تأثير الصحافي الشريف المناهض للفساد عليها أحدث تغييرات جذرية في شخصيتها، فباتت مُنحازة للحق والحقيقة وخسرت في المقابل دعم والدها، كأنه الثمن الذي دفعته ضريبة للاستقامة وتصحيح المسار.

ويُعرج فيلم «الغول» للمخرج سمير سيف على جريمة القتل بوصفها التعدي الصارخ على حياة الإنسان وحقوقه بشكل مباشر، إذ يقوم ابن رجل الأعمال حاتم ذو الفقار «نشأت الكاشف» بقتل عبد السلام محمد وهو أحد أفراد الطبقة الفقيرة المُعدمة لمجرد دفاعه عن الراقصة التي يعمل طبالاً في فرقتها ويحول دون اعتدائه عليها. من هنا يتكشف المستوى الثاني للأحداث التراجيدية المؤلمة، بمحاولة انتهاك الأعراض وضعف الفقراء في مواجهة أصحاب رؤوس الأموال والنفوذ والسُلطة، وكذلك كسر شوكة الصحافة الحرة بالاعتداء على أحد رموزها النبيلة المُتمثلة في شخص الصحافي عادل عيسى ذلك الشاب المقهور الذي جسد دورة عادل إمام في إلماح إلى هزيمة الشرفاء في معركتهم مع الانتهازيين واللصوص.
ويبقى دور القانون كأداة ردع تحتاج من يُفعّلها بالأدلة والبراهين وهو ما عجز عنه وكيل النيابة صلاح السعدني، الذي لم تغنه الثقافة واللباقة عن الوقائع والحيثيات التي تُثبت براءة المظلومين وإدانة الجُناة الحقيقيين، فأذعن في يأس وحزن إلى قرار المحكمة التي برأت جميع المتورطين في جرائم القتل والسرقة والرشوة، لعدم ثبوت الأدلة عليهم لقصور في البحث والتقصي من جانب المُحققين، وهو ما يُمثل مأساة أخرى تُضاف إلى بقية المآسي التي تتسبب في تعطيل العدالة وقلب موازينها.
إن النهاية الاضطرارية الواقعية بامتياز من وجهة نظر كاتب السيناريو وحيد حامد، التي دفعت الصحافي عادل عيسى أو عادل إمام إلى اعتماد مبدأ التصفية الجسدية للتخلص من رمز الفساد فهمي الكاشف، جاءت نتيجة حتمية لغياب العدالة، وهو المعنى الذي برر به القاتل جريمته، في حين استنكره وكيل النيابة صلاح السعدني، مُعترضاً على إحلال قانون الغابة محل القانون الدستوري الذي من أهم مبادئه ووظائفه إحقاق الحق وإنصاف المظلوم وضمان توفير الأمن والأمان. لقد أفلح المخرج سمير سيف في خلق جو من الإثارة والمتعة في آن واحد، باعتماده على مواطن القوة والتأثير في القصة الدراماتيكية بأبعادها السياسية والإنسانية وذكائه في توظيف الموسيقى التصويرية لهاني شنودة، وإفساح المجال لتجليات مدير التصوير سمير فرج، بالإضافة لبقية العناصر التقنية الأخرى التي أسهمت بشكل كبير في نجاح الفيلم ورفع مستواه الفني والإبداعي.

كاتب مصري