حضور الجسد/غياب القيود في مجموعة «نزيلات هاديس»

{title}
همزة وصل   -
جاسم خلف الياس 

تسعى مقاربات النص الأنثوي – كما هو متعارف عليه في الدراسات النقدية الحديثة – إلى التوغل عميقاً في مظان النص، من أجل كشف مفاتن النص وحرائقه، وفك شيفراته ورموزه، عبر محاور تتوافق مع المهيمنات التي تفرضها الاشتراطات الفنية لذلك النص، اللغة/ الصورة/ الإيقاع/ المفارقة/ التناص/ الجنوسة/ الرمز/ الحضور/الغياب… وغيرها، وصولا إلى التشابكات العلائقية والحمولات الدلالية التي تنهض على تأشير المحرّض والمدهش، وتجلّي المخفي وتخصيب دلالاته، وإحضار المغيّب واختباره إجرائياً. وكل ذلك يتم في فعل قرائي، يشكّل نظيراً مدهشاً للفعل الكتابي، منطلقاً من استراتيجية تعلن عن قدرة القارئ، وتهيّؤه لبناء المعنى، وتستجيب للمرتكزات والآليات التي تأتلف من معطيات وسياقات تسهم في فك الشيفرات والرموز التي تؤثث النص، وهذه الاستراتيجية ما هي إلا ممارسة تدليلية، في إمكانها سلك دروب اللغة المتشابكة، والسيطرة على اتساع دهاليزها، وتمظهر أسرارها الجمالية، وبلاغة خطاباتها، وتعدد احتمالاتها.

وعلى هذا الأساس فالسعي إلى اقتراح خطاب يتشكل في وعي الأسئلة الشعرية بصورة مغايرة ومستفزة، تتغيّا التفرد، هو سعي كتابي بمزاج خاص، وغواية تمارس مكوثها في مجسات وحفريات التشكيل اللغوي للشعر، وعمقه المتوهج، بوصفه ممارسة تحتاج في ديناميتها إلى تحولات الترميز والتدليل، كي تؤسس وعياً تأويلياً يتجاوز التبليغ أو الإبلاغ، ويستقرئ العلامات وأسرار العتمات التي تتركب منها، ليصل إلى كشوفاتها، وسيرورة سحرها. فمما لا شك فيه أن المعنى القار يتأبّى في النصوص المراوغة، ويفتقد وجوده فيها بصورته النهائية، إذ تبقى تشكلاتها وتدليلاتها تنحاز إلى انزياح لغتها لكثير من رموزها القلقة، وطاقات توتراتها العالية، وقراءاتها التي تتجاوز السائد والمألوف.
ولأن مقاربتنا تتناول الجوهر الأنثوي، برغائبه وعواطفه وزهوه، ورموزه وأقنعته، ارتأينا أن نتعقب التشاكل الإغوائي في محايثة الكلام بالجسد، تلك المحايثة المؤثثة بالعوالم الداخلية للأنثى ذاتاً ورؤية، وكل ما يتصل باللغة في مستواها الإبداعي، وكيفية تقديم هذه العوالم، فعندما ينطلق صوت المرأة/ الشاعرة من أعماقها ليس هدفه البحث عن الخلاص من أوجاع الجسد من خلال إضاءة الجوانب المضمرة والمعتمة فحسب، وإنما لإضاءة عتمة الوجود ووعي كينونته، عبر توظيف تلك العوالم بوصفها فاعلية ترميزية ودلالية تنفتح على الخارج بسحر أنثوي تطغى عليه بلاغة الجسد، وترصّد (الآخر) واستحضاره، وفرض وجوده عبر اللغة وسحرها الكلامي (الشعري) بوصفه لغة الكينونة التي تحتاج إلى أرقى درجات الوعي والتأمل والتكثيف والترميز والدقة والمعرفة الفلسفية والرؤيا، كما تحتاج إلى القدرة على الغوص في الأشياء تأملا واستشرافا، حسب تعبير الشاعرة والناقدة بشرى البستاني، وهي تركز في رؤيتها النقدية على أن قراءة كهذه عليها أن تتجاوز البنية السطحية إلى قراءة أخرى أكثر غورا، قراءة تحفر في سطح اللغة التي يتشكل فيها التنافر نزولا نحو بناها العميقة لاكتشاف ما يمكن أن يزيل اغتراب السطحي لالتقاط ألفة مثيرة وعلاقات خفية في البنية العميقة وفي المسافة الجمالية أو مسافة الفجوة ما بين البنيتين كما يسميها النقاد.

إذن نستطيع أن نقول: إن تشكيل غواية الجسد/ غواية الكلام في الشعر الأنثوي يمثل التأملات والتمردات في المجازات والانزياحات التي تعكس الأنوثة بوصفها ذاتاً إنسانية لها أحلامها وآلامها ومسراتها وأوجاعها. كما تجسد الشاعرة هذا التشكيل في فضائين متضادين: الحضور المبأّر/ الغياب المتشظي ويمكن تمثيلهما بالاستعارة التنافرية (الرجل/ المرأة) التي ظلت تعاني من الفاصل النفسي بين الثقافة الفحولية السائدة، والثقافة الأنثوية المتمردة. وإذا كان الخيال المبتكر، واللغة المدهشة، والصور الصادمة من الاشتراطات الفنية الفاعلة في تأثيث النص الشعري، فالعواطف والأحاسيس التي تنبع من الوجدان والشعور، هي التي تمنح ذلك النص صدقاً فنياً عالياً، وتخلق في القارئ تأثيراً، يعمل على كشف القيمة الحقيقية له، وهذا لا يتأتى إلا عبر رسم الصورة الفنية، والغوص في أعماق النفس الإنسانية، واللغة الشعرية الشفيفة التي تكشف قدرة الشاعر على اجتراح واقع نصي يحاكي الواقع المادي، ويرصده في بعض أو كل تفاصيله، ضمن الخبرة والوعي والتجربة.

إن تشكيل غواية الجسد/ غواية الكلام في الشعر الأنثوي يمثل التأملات والتمردات في المجازات والانزياحات التي تعكس الأنوثة بوصفها ذاتاً إنسانية لها أحلامها وآلامها ومسراتها وأوجاعها.

وإذا كانت هذه الاشتراطات من مجمل الاشتغالات الشعرية قد حققت حضوراً طاغياً في المدونة الإبداعية الحديثة بشكل عام، فما هي خصوصيتهم في الشعر الأنثوي، المؤثث بطاقة توتر عالية، وتجاوز وانزياح لكثير من الرموز المستمدة من الجسد؟ هذا الجسد الذي ينفث براكينه وصواعقه على الورق، فتسفر بعد هدوئها جملا شعرية تحمل من العلامات والدلالات والرموز ما يحتوي عالم المرأة الشاسع المجهول، إذ استبدت تقنية البوح والنجوى في استحضار ذلك الجسد، وتولّد لدى المرأة/ الشاعرة نمطا أسلوبيا يعد من خصوصياتها، تمثّل في توليد الأساليب والأنساق الجديدة وفق لغة دافئة موحية، وتشكيل لغوي يأخذ أساليبه من خزان الأحاسيس وقاموس الحواس ونبض الجسد وهمس الخاطر، وحديث ما اختزنته الذاكرة النسوية واللاوعي الأنثوي في مراحل تشكلها الممتد (سرد الجسد وغواية اللغة:1).
يشكل عنوان مقاربتنا (حضور الجسد/ غياب القيود) بنية تواصلية مع عبارتين قصيرتين وضعتهما الشاعرة ابتهال بليبل في التصدير، تمثلت الأولى في اللازمة القبلية (اقتنعت بأنّي كنتُ مسجونةً) وتمثلت الثانية في قولها (غياب جسدي يجعل حريتي مفقودة) والعبارتان تتعالقان بكوجيتو الجسد (أنا غائب إذن أنا مقموع). وعبر هذه التعالقات تلحّ علينا أسئلة الغياب الذي يلحق بالمرأة ضرراً نفسياً وجسدياً، ويجعلنا نؤمن بأن تحسسها لخصوصيتها ناتج عن تعطيل طاقتها في تحقيق الذات، فهل علاقة الجسد بهذا العالم علاقة المغتصب بسلاحه، وهو ينظر للثياب، ويتفحص التفاصيل (التضاريس) الأكثر إثارة؟ يبدو أن الشاعرة أرادت أن تسخر من نظرة الرجل الدونيّة إلى المرأة بوصفها جسداً للشهوة واللذة، لا عقلاً إنتاجياً، يفرض وجوده بالقوة في الحضور الفيزيقي، ويفرض نفسه بالفعل في الحضور الكتابي، وهي تسعى للتخلص من هيمنة الذكورة ومفاهيمها الإقصائية (التجاهل، القمع، النسيان، الكبت، التهميش، العتمة) كي يبقى الرجل مفجوعاً بانهيار القيم الإنسانية، وتزايد النفاق الأخلاقي، ومنبطحاً أمام أهوال الغرائز المنفلتة من اللاوعي الجمعي، وهذا ما دعا الشاعرة إلى مواجهته بذات تحتكم إلى التمايز بين هويتين تتعاملان بندّية مكشوفة: (ما زلت كما أنت). وهذا لا يعني أن الشاعرة تنكر ضرورة الجسد بوصفه (هوية ثقافية ملغزة) لها نجاحاتها وإحباطاتها، لكنها تنكر الجسد عندما يتحرر جنسياً بوصفه سلعة مكرّسة للشهوة، وعلى هذا الأساس نرى أن الذات الشاعرة في هذه النصوص عندما تعصف بجسدها العواصف، تظل في لحظة الحضور/ الغياب قادرة على التفاعل والانتقال من مستوى التأثّر إلى مستوى التأثير، وهذا ما دعاها للإعلان عن تمسكها بخصوصيتها وفرادتها: (لأنك دوني لا شيء، أنا الشيء كله) وهذه الراديكالية الحتمية نتيجة الضغوط والأفعال القسرية التي جعلتها تمارس نرجسيتها، قد أخذت تتمركز في أحاسيس ومشاعر وعقل المرأة مثلما كانت تتمركز في أحاسيس ومشاعر وعقل الرجل سابقاً. رافضة فكرة الأداة التأديبية (الحرمان من الحرية… بوصفها أداة الهيمنة على الجسد، لترويض الأنثى ومعاقبتها، لتظل السلطوية خصماً فكرياً تجاه الجسد الذي تتلاشى حدوده بين الهامشية والمركزية والعقلانية والجنون، والتمرد والخضوع) فهل حققت الشاعرة ابتهال في نصوصها – التي هيّأتها لكل امرأة لم تعد ترضيها الأحكام المجتمعية والأبوية – ردعاً لذكورية/ فحولية مكانية في مشاهد الزنزانة ودلالاتها، حسب تعبيرها؟ وماذا أرادت أن تقول ابتهال لنزيلات هاديس؟ هل أرادت أن تدين الذات التي تتحكم في عصمة الحماية ورعاية الأنوثة المنسحقة في ظل حراسة المحرمات؟ لقد توارثت ذاكرة الرجل نظرته إلى المرأة بوصفها كينونة وهوية نظرة دونية، وتهجّرت هذه النظرة من الواقع الاجتماعي الذي مارس شتى آليات الاقصاء ووسائل الاستلاب، إلى الواقع النصّي الذي يعد في أبسط تجلّياته وعياً بالذات والآخر والعالم. ويبدو أن ابتهال بليبل قد جسّدت مقولة (رؤية الوجود من خلال الذات) في هذه المجموعة الشعرية ضمن منظور معرفي، منحها عالماً فسيحاً من النديّة ضد الهيمنة الذكورية: (كم من فخّ عميق يقبع هنا، يدّخرني للأحزان كمرآب يطلقني لأكون: حجراً، أو طيراً). نعم تتعدد الفخاخ والصيد واحد، وتتعدد المحرّضات والوعي واحد، يا لبؤس هذه الهيمنة وهي تواجه العنف الأنثوي في هذه النصوص بتوظيف التداخل اللغوي/ الفني (الصورة البصرية) وهما مؤثثان بعنف فاعل ومؤثر في الإدراك.

ففي نص (ضفة الذبول.. الترجّل الأول) يواجهنا العنف اللغوي في مفردات (التشتت) الذي يوحي بالانفجار، (خضت بالوحل) الذي يوحي بالسقوط في مستنقع الخطيئة أو العار، (خراب النزول) الذي يوحي بالدمار والهلاك، (تزدرد ريقك) الذي يوحي بالعطش القاسي وهو يمر بالـ(الحنجرة المتخشبة) لكي تبلع (هواء الخذلان) وتتجمع كل هذه الأفعال في بوتقة واحدة (لتبصر كل هذا الخواء). وفي نص (نزيلات هاديس) هناك عنف لغوي أقوى يتمثل في الصراخ والدماء الانفصال… وغيرها، لكننا سنؤكد في هذا النص على العنف الفني المتمثل بالـ(كاميرا) («كاميرتي» من عالم آخر، ذاكرات في الاتجاه المعاكس) (لنجمع ألم الضوء الشارد) (ماذا تعمل الأربطة، خلفها، في أصابع أقدام النساء) (الهروب من الوجود والاختبار في كاميرتي) (ثرثرة الكوافيرة، (الابتسامات الطائشة، أسنان المشط) لكن كل هذا الأفعال لم تناسب («كاميرا» تفتح عدساتها بسرعة الزومبي بعد كل غيبوبة) ومن المؤكد أن (لا أحد يجيد تحريك عدسات «كاميرتي» المثقلة بالوجوه). وبعد تصوير مشاهد عدّة سواء في الأمكنة المقفلة (الغرف) أو الأمكنة المفتوحة (طريق المدرسة) تتحول الكاميرا لامرأة قلقة لم تجرّب (الفوتوشوب) لتعيد كل شيء إلى ذاكرتها بقسوة بعد أن كانت نائمة تغرق بلجة خدر، حتى وصول صراخها: (فأرى الثواني/ ترتجف معي من الانكسار) (أنا امرأة سوداوية فشلت في تأكيد وجودها). وتستمر الذات الشاعرة في تفعيل وجودها، وتثبيت ذاتها، ومقاومة تهميشها، وهي تشخص الضياع الذي سيعرقل كل خطواته بعيدا عنها: (لولا أنك كنت ماشياً صوب أرصفة وشوارع خالية مني). أما بنات جنسها الأخريات فـ(قد كنّ يسحبّن سواد الليل بأصابع نازفة/ وفقدن شيئا ما… يشبه ما يثير انتباه الأحياء).

وربما يعتري القارئ الذهول، وهو يقرأ هذا النص الشعري، ويجرّه إلى الغرابة المدهشة؛ لأنه على درجة عالية من السحر الكتابي الذي يكشف زيف الواقع وخيباته: (المحطات مفتوحة على أنفسنا/ المهانة كوجوهنا الهائمة مع ظلالنا من ثقل المصائر) وعلى درجة أعلى من التراكم الوجداني الذي كشف الأوهام التي نعيشها: (ستحفر بزاوية من روحي على جانبه/ وتفتح دوامة من خيوط منديل في راحة يد/ لوّحت للوداع دون أسف). الوجدان الإنساني الخالي من المخاتلة والخدع والعواطف التي غرّرت بنا؛ ولهذا أخذت الذات الشاعرة تشاطرنا قناعاتها الداخلية بما يعتمل في فكرها، دون تعثّر، فتتواصل وتتفاعل مع تلك الصيرورة التي تشخّص لها صبواتها ونزوعاتها في طبيعتها الإنسانية، فتصارع الضياع والاختناق والانسحاق، لتنطلق نحو الازدهار، وزهو الحياة، وممارسة الحرية في بناء طبيعتها الإنسانية: (لحظة استعملت «الكاميرا» التي بدت كخوذة/ أدركت أن علاقتي بهذا الرأس المستدير قد تغيّرت/ تفاقمت ذاكرتي وأفكاري/ لطالما هززته كبيضة مسلوقة بين أصابعي/ لأنسى – بلا فائدة – القارب الذي يظهر فجأة تحت حذائي). وهكذا تستمر الشاعرة ابتهال بليبل في مجموعة «نزيلات هاديس» في مقاربة واقعها الإنساني، فتتجاوز سرانية الشعر الأنثوي إلى الهوية الأنثوية وكينونتها الإنسانية، وتغادر التداخل السردي/ الشعري إلى التداخل الشعري/ السينمي، وتنطلق من فتنة الجسد/ غواية الكتابة إلى العنف اللغوي/ الفني، والاستلاب على الأصعدة كافة؛ فضلا عن الوصول من نقطة الشروع (العنوان) مرورا بمحطتي الانفصال والاتصال إلى نقطة الختام؛ ولتنوع هذه المهيمنات النصيّة، ستبقى أبواب مجموعة «نزيلات هاديس» مشرعة لتناولها في قابل الأيام في مقاربات أُخر تفرضها تلك المهيمنات التي تزداد مع كل قراءة جديدة.

كاتب عراقي

© جميع الحقوق محفوظة لهمزة وصل 2024
تصميم و تطوير