
في وقت غرقت مراكز الأبحاث الأمريكية والمؤرخون في 64 ألف صفحة، هي جملة الوثائق المفرج عنها بشأن أشهر حادثة اغتيال في التاريخ الحديث، للرئيس الأمريكي جون كينيدي، في محاولة لاصطياد معلومات جديدة قد تحلّ بشكل قاطع ألغاز الجريمة المغلفة بنظريات المؤامرة على مدار 62 عاماً، ومن بينها تورط أجهزة استخباراتية، أو سر «الرصاصة السحرية»، لكن الكثير من التفاصيل المثيرة الأخرى ظهرت على الهامش، بينما ظل الاتهام الأساسي حول القاتل المنفرد على حاله.
ومع ظهور طوفان الوثائق الجديدة، انطلق سباق محموم لمحاولة اكتشاف المزيد من الحقائق، حيث نقّب الصحفيون والمؤرخون والمحققون الهواة بين الصفحات أملًا في العثور على أي شيء ذي أهمية، فعلى مدار سنوات طويلة وبينما كانت الحكومة الأمريكية تواصل رفع السرية عن بعض وثائق كينيدي مع إخفاء بعض تفاصيلها، كان الافتراض الذي تبناه منظرو المؤامرة وبعض المؤرخين أن شيئاً خطراً بشأن القضية لا يزال محجوبًا.
ـ كنز استخباراتي ـ
ورغم أن المجموعة الجديدة من الوثائق لم تثر إعجاب رجل الشارع الأمريكي، لكن بالنسبة للمؤرخين والباحثين، فقد كانت هناك بعض الكنوز التي يمكن اكتشافها من خلال القراءة بين السطور، فعلى سبيل المثال يتناول ملخص لتقرير سري لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، مؤلف من 693 صفحة، يعود تاريخه إلى عام 1975، حالات «ربما تكون الوكالة قد تجاوزت فيها صلاحياتها»، عن طريق عمليات اقتحام خارجية، ومراقبة غير قانونية، وعمليات متنوعة «بالغة الحساسية»، حيث قال ديفيد غارو، المؤرخ ذو الخبرة الواسعة في ملفات الاستخبارات: «إنه سجلٌّ حافلٌ بـ«الأفعال السيئة للوكالة».
ومن بين الوثائق المنشورة، أعرب أحد مساعدي الرئيس كينيدي عن قلقه من أن يُقوّض ضباط وكالة الاستخبارات المركزية المتمركزون في السفارات حول العالم سلطة وزارة الخارجية، وفقًا لجزء جديد غير مُحرّر من مذكرة موجهة إلى الرئيس عام ١٩٦١.

ـ معلومات سرية ـ
وبدلًا من الكشف عن وجود«أدلة دامغة» على تورط وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في اغتيال كينيدي، فقد كشفت الوثائق عن تفاصيل أخرى حول عملاء الوكالة ومخبريها، وعملياتها السرية، وميزانيتها، ويبدو أن هذا كان السبب الأساسي لعدم كشف المزيد من الوثائق حماية لسرية عمل الوكالة.
ومن بين الملفات الجديدة المنشورة سجلات محاسبية تتضمن أرقام الضمان الاجتماعي للعشرات من أعضاء الكونغرس، وباحثين استخباراتيين، وسفيرًا سابقًا، وعشرات آخرين. ولا يزال العديد منهم على قيد الحياة، وقد اكتشفوا أن البيت الأبيض سرّب معلوماتهم الشخصية للعالم.
وقال جوزيف ديجينوفا، محامي حملة ترامب السابق، البالغ من العمر 80 عامًا، والذي أُدرجت معلوماته الخاصة في الكشف:«إنه أمرٌ شائن للغاية. إنه أمرٌ غير دقيق وغير مهني». وأضاف:«من المنطقي أن يكون اسمي موجودًا هناك، وذلك بسبب عملي في السبعينيات في التحقيق في انتهاكات الاستخبارات».
واستطرد بالقول: «كان عملاً رائعاً. تمكّن أحد المحامين في فريقنا من تحديد موقع صديقة أحد رجال المافيا تردد اسمها في سياق القضية، ومن الأعمال الأخرى التي قمنا بها، التحقيق في مؤامرات اغتيال الزعيم الكوبي السابق فيدل كاسترو، وأشخاص كانوا بمثابة أصول مهمة لوكالة الاستخبارات المركزية».
ويقول بعض المحققين الذين وردت أسماؤهم في وثائق كينيدي:«كانت التحقيقات التي أجريناها بخصوص جهاز الاستخبارات، في أعقاب فضيحة ووترغيت عام 1968، وكانت الفكرة الأساسية هي الكشف عن الأنشطة السرية غير القانونية الجارية».
ـ إجراءات احترازية ـ
وقالت موظفة سابقة عملت لاحقاً في وزارة الخارجية الأمريكية، إنها غاضبة جدًا لقلقها الآن بشأن الاحتيال المالي وسرقة الهوية، بعد الكشف عن رقم ضمانها الاجتماعي، كما قال ثلاثة موظفين سابقين آخرين في اللجنة إنهم منذ علمهم بكشف أرقام الضمان الاجتماعي الخاصة بهم، اتصلوا ببنوكهم لتجميد حساباتهم وبطاقاتهم الائتمانية، ثم تحدث أحدهم حول إمكانية مقاضاة الأرشيف الوطني لكشف تلك المعلومات السرية عنهم.
أما كريستوفر بايل، الذي تم الكشف عن معلوماته السرية في الوثائق، فقد كان ضابطاً سابقاً في الجيش، وأبلغ عن عمليات استخبارات داخلية سرية للجيش، ثم أدلى بشهادته أمام الكونغرس. وقال إن أنشطته كمُبلغ عن المخالفات أوصلته إلى «قائمة أعداء» إدارة الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون، ثم صرح لصحيفة واشنطن بوست:«أنا مندهش من وصول هذه المعلومات إلى الوثائق المنشورة.الحكومة ترتكب حماقات».
وعبر عن قلقه بشأن تأثير المعلومات السرية المسربة ضمن وثائق كينيدي على من«عملوا بجد في سبعينيات القرن الماضي للكشف عن أفعال تجاوزات الإدارة الأمريكية».

ـ لماذا وقع الفشل ؟ ـ
يقول بعض المؤرخين إن نشر هذه المعلومات الحساسة التي لا تتعلق بالقضية، يرجع إلى تسرع مكتب التحقيقات الفيدرالي في التدقيق في المواد التي نُشرت بناءً على طلب ترامب، وقد كشف ذلك عن ملف شخصي كامل لعميل واحد على الأقل في وكالة الاستخبارات المركزية، وأرقام الضمان الاجتماعي التي تعد مفتاح المعلومات السرية لأي أمريكي.
وأقرت كارولين ليفيت، السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض، بنشر البيانات الخاصة لموظفين حكوميين سابقين، وقالت إن الإدارة تعمل على مساعدة المتضررين. وأضافت:»بناءً على طلب البيت الأبيض، وضعت الأرشيفات الوطنية وإدارة الضمان الاجتماعي على الفور خطة عملٍ لتقديم المساعدة الاستباقية للأفراد الذين نُشرت معلوماتهم الشخصية في الملفات».
ورغم أنهم كانوا يعدون السجلات منذ أن وقّع ترامب على أمر تنفيذي يقضي بالإفراج عنها، فإن إعلانه أثار حالة من الفوضى بين المسؤولين الذين اضطروا إلى التدقيق في الوثائق لساعات في محاولة لتقييم المخاطر، ودافعت مديرة الاستخبارات الوطنية، تولسي غابارد، عن الكشف، وقالت:«يُدشن الرئيس ترامب حقبة جديدة من الشفافية القصوى. واليوم، وبناءً على توجيهاته، تُنشر ملفات اغتيال جون كينيدي التي حُرّرت سابقًا دون أي تنقيحات».
ـ ما هي الوثائق الجديدة؟ ـ
تضمنت الوثائق الجديدة 1123 وثيقة بصيغة PDF، شملت تقارير مكتوبة بالآلة الكاتبة وملاحظات بخط اليد، وكان معظمها أقصر من 10 صفحات، وقال ديفيد جاي جارو، وهو مؤرخ كتب بإسهاب عن وكالات الاستخبارات:«هذه الدفعة أكثر غموضاً بكثير من جميع الدفعات السابقة، التي كانت أكثر توثيقاً».
وأظهرت مراجعة مبكرة للوثائق أن بعضها غير واضح وصعب القراءة، ويرجع ذلك بلا شك إلى عمرها، حيث تم كتابتها أو تدوينها قبل أكثر من نصف قرن، كما أنها نُسخت ضوئياً من مصادر أصلية قديمة.
ويؤكد تيم نفتالي، الأستاذ المساعد في كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا، أن السبب وراء إبقاء هذه المعلومات سرية طوال هذه العقود لم يكن احتواؤها على معلومات صادمة عن الاغتيال، بل لحماية تفاصيل حساسة حول أساليب جمع المعلومات الاستخباراتية الخاصة بوكالة الاستخبارات المركزية.
ـ القاتل ـ
من بين الوثائق، هناك 44 وثيقة تتعلق بضابط وكالة الاستخبارات المركزية جورج جوانيديس وبرنامج سري متعلق بكوبا كان يديره، حيث يُعتقد أن هذا البرنامج تواصل مع الشخص المتهم بقتل كينيدي، وهو لي هارفي أوزوالد الجندي السابق في المارينز الأمريكي، والذي تعرض للقتل بعد يومين من العملية، على يد جاك روبي، صاحب ملهى ليلي في دالاس، أثناء نقله لمحاكمته، ووفقاً لتقديرات باحثي مؤسسة ماري فيريل، فقد حدث هذا التواصل قبل أقل من أربعة أشهر من اغتيال كينيدي، وفقاً لتقديرات.
وبحسب الوثائق الجديدة، فقد توصلت كل الوكالات الأمريكية التي حققت في العملية، إلى نفس الاستنتاج، وهو أن كينيدي اغتيل على يد أوزوالد، ووصفته بأنه مسلح منفرد، أطلق ثلاث طلقات من الطابق السادس لمستودع في ساحة ديلي، بينما كان كينيدي في موكب يمر عبر مدينة دالاس عام 1963.
وأصابت الرصاصات كينيدي وحاكم ولاية تكساس جون كونالي، الذي كان يركب في نفس السيارة. وتم القبض على أوزوالد بعد ساعات من إطلاق النار. وبعد يومين، قُتل بالرصاص على يد روبي.

ـ نظريات مؤامرة ـ
وبعد نشر هذا الكمّ الضخم من الوثائق فإن أصحاب نظريات المؤامرة التي ترسخت منذ اغتيال كينيدي، مازالوا يعتقدون أن شيئاً ما مفقود، ولا يأتي ذكره في سجلات الحكومة، ومن بين أبرز النظريات غير المدعومة بالأدلة تورط وكالة الاستخبارات المركزية CIA، والمافيا، وحتى نائب الرئيس كينيدي، ليندون جونسون في الحادث. وتساءل الكثيرون عمّا إذا كان أوزوالد قد تصرف بمفرده، وما إذا كانت عملية الاغتيال مؤامرة كبرى.
وفي عام 2016، ألمح دونالد ترمب إلى أن والد السيناتور تيد كروز من تكساس كان متورطاً بطريقة ما في عملية الاغتيال، وعام 2023، زعم روبرت كينيدي، الذي يشغل الآن منصب وزير الصحة الأمريكية، أن هناك «أدلة دامغة» على أن وكالة الاستخبارات المركزية كانت لها يد في اغتيال عمه.
ـ الرصاصة السحرية ـ
خلصت لجنة وارن، إلى أن إحدى الرصاصات التي أطلقها أوزوالد أصابت الرئيس كينيدي، ثم خرجت من حلقه، وضربت الحاكم كونالي، مسببة إصابات في فخذه وظهره وصدره ومعصمه. وقد أطلق على هذه الرصاصة اسم «الرصاصة السحرية» من قبل أولئك الذين وجدوا هذا التسلسل من الأحداث غير معقول.
وفي عام 1979، أصدرت لجنة مجلس النواب المنتقاة للاغتيالات تقريراً يفيد بأن هناك «احتمالاً» لتورط متآمرين في اغتيال كينيدي. وبحسب تلك اللجنة، التي استندت في نتائجها إلى اختبارات صوتية لتسجيلات شرطة دالاس، أطلق أوزوالد ثلاث طلقات من الطابق السادس لمستودع الكتب المدرسية في تكساس، بينما تم إطلاق طلقة أخرى من تل عشبي أمام سيارة الرئيس، وتم تقويض نتائج التقرير إلى حد كبير.
وادّعى البعض أن أوزوالد كانت لديه صلات بحكومات أجنبية أو وكالات داخلية أمريكية، كما أثارت رحلته إلى مكسيكو سيتي وزيارته للبعثتين السوفييتية والكوبية هناك، قبل أسابيع قليلة من الاغتيال، العديد من التساؤلات. وصرّح أوزوالد أنه سافر إلى المكسيك للحصول على تأشيرات من السفارتين، لكن القليل معروف عن تفاصيل تلك الزيارة.
ونفى أوزوالد إطلاق النار على الرئيس، وادّعى أنه مجرد«كبش فداء» تم الإيقاع به من قبل آخرين.

وأطلق جاك روبي النار على أوزوالد عن قرب وقتله، ووجدت لجنة وارن أن روبي لم يكن يعرف أوزوالد قبل قتله، لكن الكثيرين لا يزالون يشككون في دافعه، وما إذا كانت هناك علاقة بينهما.
وحاولت لجنة وارن، التي شُكِّلت عام ١٩٦٣ للتحقيق في اغتيال كينيدي، بشكلٍ صريح دحض نظريات المؤامرة، لكنها لم تُفلح، ثم صدر قانون عام ١٩٩٢ الذي أمر بنشر الوثائق المتعلقة بالاغتيال خلال ٢٥ عامًا، مع استثناءات محدودة. وبحلول عام ٢٠٢٣، كان قد تم الكشف عن ٩٩٪ من الوثائق، والآن أُضيف ٦٤ ألف وثيقة أخرى إلى السجل. ومع ذلك، قد لا يزول سؤال: ما هو المفقود أبدًا؟
وفي حين صرح ترامب أنه سيأمر بنشر 80 ألف صفحة من الوثائق المتعلقة بالاغتيال، وأنه لن يكون هناك أي تنقيح، ما أثار قلق مسؤولي الأمن القومي، فقد جرى نشر 64 ألف صفحة فقط، وقد حُجبت بالفعل معلومات عن بعضها، وهو ما جعل البعض ينتظر مزيد من عمليات الكشف عن 16 ألف وثيقة أخرى.
