منذ وقت قصير، أصبتُ بوعكة
صحية، وبدأ الألم ينهش جسدي، حاولتُ أن أصارعه لفترة من الوقت، ولكنه تشرس،
وتوحّش، وأنشب مخالبه في أوصالي، فاستسلمت لغرس نابه، وذهبت أجر أذيال الهزيمة،
فلم أصمد أمام غريمي كثيرًا، بعد أن شل حركتي، وسكنتُ تحت سطوته، فكان سرير
المستشفى ملاذي الوحيد في ذلك الوقت.
وبعد مدة والحمد لله تماثلت للشفاء جزئيًا، وذهبت لإجراء تصوير
بالرنين المغناطيسي، وبعد انتهائي، قصدت قسم السجلات الطبية حتى أقدم طلبًا للحصول
على نسخة من الأشعة، وعندما انتهيت من ملء نموذج الطلب، طلبت مني الموظفة أن أتوجه
إلى الصندوق لدفع الرسوم، هنا أدركت بأني لا أحمل نقودًا ولا حتى بطاقتي
الائتمانية، ورغم ذلك توجهت إلى الصندوق فما زلت أمتلك ورقة رابحة في هاتفي، شعرت
وقتها بنعمة التكنولوجيا لا عدمناها … فحاولت الدفع عن طريق مسح البطاقة من
الهاتف، ولسوء الحظ لم تعمل الخاصية، حاولت مرة واثنتين وثلاثًا، ولم تبد تلك
الآلة اللعينة أي استجابة، هنا شعرت كم يمكن أن تعصاك عصاك، وتخذلك يمينك !!! لم
تكن حالتي الصحية تسعفني على العودة مرة أخرى، وعندما هممت بالانصراف رأيت فرعًا
للبنك الذي أتعامل معه، فرحت كثيرًا، وقلت في نفسي ستتيسر بإذن الله، دخلت الفرع
وكان صغيرًا جدًا، توجد فيه ثلاث موظفات فقط، إحداهن كانت منشغلة بعميلة على
الصندوق، وأخرى لم أنتبه إليها جيدًا كانت تجلس على أحد المكاتب المكشوفة،
والثالثة كانت تجلس في مكتب خاص، كان الفرع خاليًا عداي والعميلة الأخرى، وكنت
أحاول أن أسرع قبل أن يحين موعد الإقفال، فتوجهت من فوري إلى الموظفة الثالثة، تلك
المنعزلة خلف باب من زجاج، سلمت عليها وعرضت عليها مشكلتي، فأجابت بكل برود: ليس
لدي فكرة ! ثم أردفت: جربي أن تمسحيها وأن تعيدي تحميلها، ففعلت بسرعة ودون تفكير،
ولكن واجهتني مشكلة، فالتحميل الجديد يتطلب مسح البطاقة، والبطاقة ليست معي الآن !
فخاطبتها معاتبة: طلبتِ مني أن أمسح البطاقة، والآن لا يمكنني إعادة تحميلها !
صمتت ونظرت لي بنظرة تقول وما شأني في ذلك، ثم صرفت نظرها عني دون أن توجه لي كلمة
أو تحاول مساعدتي، فتحولت بسرعة إلى الموظفة الثانية، بلهفة الغريق الذي تعلق بقشة
ولا يعلم إن كانت ستصمد عندما تتكسر الأمواج، أم ينتظره المزيد والمزيد من النظرات
والحسرات والخيبات، وحينها لفت انتباهي أن هذه الموظفة هي من تعمل في خدمة
العملاء، بينما الموظفة التي قابلتها كانت مديرة الفرع !!!
مَن تلك السيدة ؟ سألتُها في استغراب.
فأخبرتني بأنها تنوب عن مدير الفرع فترة غيابه، فتمتمت بيني وبين
حبيبتي وصديقتي نفسي التي تسمعني وتتحملني ولا تشتكي أبدًا من ثرثرتي ولذاعة
لساني: ونعم النائب !!
عرضت عليها مشكلتي، فقالت دون تردد: أنا سوف أدفع الرسوم !! فقلت
لها: ليس لهذه الدرجة ! يمكنني العودة في يوم آخر، الموضوع ليس ضروريًا، كما
يمكنني أن أسحب المبلغ نقدًا من الصندوق !
«إن الصندوق مشغولٌ الآن، هيا بنا، سوف أخرج معك لأجري دفع الرسوم
ببطاقتي الائتمانية»
خرجت معها وتوجهنا إلى الصندوق وتم دفع الرسوم، ثم شكرتها وذهبت
لأنهي إجراءات تقديم الطلب، عدت إلى البنك وسحبت مبلغًا نقديًا، فأعدت لها نقودها
شاكرة لموقفها النبيل، خرجت من الفرع، وأنا أحمد الله على أناس مثلها، وأتباحث
بيني وبين حبيبتي عن موقفها الجميل، حيث رسمت بموقفها الكريم أملًا كنت أظنه قد
انقضى من هذا العالم ! ثم توجهت إلى محل الشوكولاتة الذي كان قبالة الفرع، وصور
الشوكولاتة المحشية بالبندق التي أعشقها تتلاعب بعصبونات مخي، فتثير الذكرى لذلك
المذاق في مخيلتي، الذي لطالما هيج حليمات لساني، فأفرزت ذلك اللعاب الذي خالطه
الحنين لتلك النكهة التي كنت أظن وأنا صغيرة أنها صعبة المنال ! دخلت المحل
وانتقيت الأصناف التي أحب، ولما هممت بالانصراف، خطر في بالي أن أقدم هذه
الشوكولاتة التي أعشقها لمن يستحقها، فعدت فورًا إلى الموظفة وقدمت الشوكولاتة إلى
من أحسنت لي، وأزاحت عني هم العودة إلى هذا المكان
كنت سعيدة بأن العالم ما زال بخير، وأن هناك من يشعر بك ويحاول تسهيل
الأمور عليك، ويثق بك ويبادر إلى مساعدتك بهذه الطريقة.
بالمقابل وفي نفس المكان كانت هناك الصورة السلبية التي بدرت من
الموظفة الأخرى، حيث لم تتكلف عناء المحاولة في تقديم المساعدة.
مثل هذه المواقف الطيبة تستحق إبرازها للمجتمع، فمنذ مدة يسيرة
احتفلنا بالرابحين في جائزة أخلاقنا التي تعتبر مبادرة كريمة من أيدٍ كريمة،
وللجائزة عدة مستويات، فأتمنّى أن يضاف للجائزة مستوى آخر وبعد آخر، يكرم الأشخاص
الأكثر عطاءً وخدمة للناس بناءً على موقف عظيم لهم، وهذا من شأنه أن يشجع الأفراد
على التعامل بالأخلاق، ويعزز من انتشار الفضائل في المجتمع، ويحمس الفرد أن يكون
أخلاقيًا في شتى تصرفاته، ونواحي حياته، وبهذا تتعافى الأخلاق من داء الوهن الذي
أصابها.
وهنا تذكرتُ قولَ الإمام الشافعي رحمة الله عليه حين قال:
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات
… دمتم بِوُد.