في شعاب جديدة لم نسبرها من قبل تدوي اليوم صيحات تقنيات الذكاء الاصطناعي، فهل سيتمكن أبناء الأجيال السابقة من اللحاق بهذا الركب؟
يبدو سؤالا مغالطا لكنه مطروح بقوة في زمن هيمنة التقنية وانفجارها غير المسبوق، وهناك مخاوف من غزو الذكاء الاصطناعي لمختلف مجالات الحياة.
وفي الحقيقة إن الأمر لا يتعلق بالعمر والتقدم بالسن بقدر ما يتعلق برغبة الإنسان بمواكبة كل جديد والإحاطة به.
فالذكاء الاصطناعي لم يعد حديث العصر فحسب، بل غدا هاجسا حقيقيا لكثير من الأنظمة السياسية والمنظومات المؤسسية؛ وقد غزا كثيرا من مجالات الحياة، وهيمن على كثير من تفاصيلها بسرعة فائقة.
الذكاء الاصطناعي اليوم لا يشبه مرحلة اختراع الحواسيب ودخول الإنترنت إلى نواحي الحياة كلها، فامتداداته أوسع وتأثيراته أعمق وحركته أسرع، يبدو أشبه بغزو حقيقي مرحب به من بني الإنسان، وهنا يتساءل المرء إن كان يصدق عليه وصف الغزو النبيل حقا، أو أن القادم أكبر من أن يحاط به؟
فما الذكاء الاصطناعي، وما علاقته باللغات عامة وباللغة العربية خاصة؟ وما تأثيراته في تعليم اللغة العربية لأبنائها الصغار ولغير الناطقين بها؟
أسئلة شتى باتت تؤرق العاملين في مجال اللغات حبا وعناية وخدمة وتعليما.
لا بد من تحرير مفهوم الذكاء الاصطناعي ابتداء بوصفه مصطلحا جديدا دخل إلى مجال تعليم اللغات، لنصل بعد ذلك إلى رصد تأثيراته سلبا وإيجابا في عمليات التعليم.
يعرف الذكاء الاصطناعي بأنه محاكاة الآلة لعمل الإنسان، وقدرتها على مجاراته في إنجاز المهام التي تحتاج ذكاء بشريا لإنجازها، بل التفوق عليه في سرعة الأداء ودقة التحقيق والإنجاز، ولا يمكننا إنكار أن الأسئلة التي أثارها الذكاء الاصطناعي ما تزال أكبر بكثير من الإجابات، فإلى أي مدى تصدق التنبؤات بقدرات الذكاء الاصطناعي التي تجتاح العالم من حولنا؟
وهل ستتمكن برامج الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته من إزاحة المعلم بكل ما لديه من خبرات وتفاعلات إنسانية مع محيطه وزملائه وطلابه؟ وهل سيحقق الطالب مبتغاه من العملية التعليمية واكتساب العربية ومهاراتها حين يحل الذكاء الاصطناعي محل الأساتذة؟
وما خطورة الاستغناء عن الإنسان في مجال التعليم، وهل هذا الاحتمال ممكن الحدوث بالفعل؟ وما تداعيات ذلك على الأساتذة من جهة، وعلى الطلاب من جهة ثانية، وعلى عملية التعليم بأسرها من جهة ثالثة؟ أظن -آسفة- أنه لا يمكننا اليوم الوصول إلى أجوبة دقيقة وحتمية ونهائية لكل هذه الأسئلة.
عرف الدكتور المصري نبيل علي؛ الرائد في مجال معالجة اللغات وهندستها حاسوبيا، المتوفى سنة 2016م -رحمه الله- بعنايته بمجال حوسبة اللغة، وكانت له مقولة شهيرة؛ مفادها أنه لا يستطيع أحد تطويع التكنولوجيا الحديثة للتعامل بدقة واحترام مع اللغة العربية والناطقين بها إلا أبناؤها أنفسهم.
وقد عمل باجتهاد لخدمة اللغة العربية بوساطة التكنولوجيا، ناهيك من أبحاثه التي سلطت الضوء على علاقة اللغة العربية بالحوسبة، وما يواجه ذلك من صعوبات تتعلق بطبيعة اللغة الاشتقاقية وقواعدها الصرفية، ولم يكتف باقتراح حلول، بل أوجد آليات وأنشأ برامج عدة؛ مثل برنامج الإعراب الآلي والصرف الآلي والتشكيل الآلي وغيرها، وقد أثبتت هذه البرامج فاعلية وقدرة على المواكبة.
هل يشكل الذكاء الاصطناعي تهديدا للوظائف التعليمية في مجال خدمة اللغة العربية؟
في الحقيقة لم يعد بإمكاننا أن نتجاهل الدور الفعال للذكاء الاصطناعي في مجال التعليم، لكننا بحاجة إلى ترشيد استعماله وكيفية التعامل معه. والسؤال هنا: هل يملك الإنسان اليوم القدرة على ترشيد الذكاء الاصطناعي وتوجيهه أو أنه تفوق علينا بالفعل؟ وما مدى تأثيره بالوظائف التعليمية في مجال خدمة اللغة العربية؟
يعنى الذكاء الاصطناعي بحوسبة اللغة؛ أي إنشاء برامج تستوعب اللغة فهما، وتطلقها بمخرجات تقنية تجاري قدرة الإنسان على التعامل مع اللغة.
وكل من جرب استعمال برنامج "وورد” (Word) للكتابة يعرف المدقق اللغوي الإلكتروني الذي يشير إلى الأخطاء وينبه الكاتب لتصحيحها. نعم، هذه أحد مظاهر الذكاء الاصطناعي بأبسط صوره فيما يخص تصحيح الكتابة باللغة العربية، أضف إلى ذلك المعجم الرقمي، والترجمة الفورية للغة وإخراجها صوتيا.