
يسعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للضغط بكل الوسائل المتاحة لكسر دائرة الاستقالة الفولاذية التي تغلف منصب رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة، ومن بين ذلك خيار الإقالة، في ظل رفض جيروم باول الاستجابة لمطلب تخفيض أسعار الفائدة، وهو ما يراه ترامب حلاً للتخفيف من حدة الضربة الناجمة عن الرسوم الجمركية، لكن عوائق قانونية واقتصادية شديدة التعقيد قد تطال الإطاحة بباول.
ومن شبه المؤكد أن أي محاولة من ترامب لإقالة باول ستنتهي أمام المحكمة العليا، وبالتالي، سيظل في منصبه حتى انتهاء النزاع القضائي، والذي قد يمتد حتى نهاية فترة ولايته العام المقبل. كما أن القرار قد يُلقي بظلال من الشك على من سيخلف باول في نهاية المطاف، إضافة إلى أن أي احتمال لإقالته بسبب نزاع سياسي من المرجح أن يُسبب هبوطاً حاداً في الأسواق المالية، لدرجة أن البعض وصف الإقالة بأنها أشبه ب«خيار اقتصادي نووي».
المهمة المعقدة:
ويرى مراقبون مشكلة مزدوجه بشأن تهديدات ترامب بإقالة باول، فأولاً: ليس من الواضح ما إذا كان يمتلك السلطة القانونية اللازمة لإقالته قبل انتهاء ولايته، وثانياً: فقد جعلت الحرب التجارية التي شنها ترامب التوجه لخفض أسعار الفائدة أكثر صعوبة في الوقت الحالي، إذ يخشى الاحتياطي الفيدرالي من أن يؤدي اتخاذ إجراءات لدعم الاقتصاد إلى تفاقم التضخم.
ويُعد تحديد أسعار الفائدة لحماية الاقتصاد وضعاً صعباً للغاية بالنسبة للبنوك المركزية، فقد تُؤدي الحرب التجارية في البداية إلى ارتفاع الأسعار، مع إضعاف الطلب، ما يُؤثر سلباً في سوق العمل. ويقول باتريك ماكهينري، عضو الكونغرس الجمهوري السابق: «إنها المهمة الأكثر تعقيداً التي واجهها أي رئيس لبنك الاحتياطي الفيدرالي».
مسار تصادمي مدمر:
وأدى التوتر بين ترامب وباول، إلى تركهما في مسار تصادمي من دون أي مخرج سهل، ما لم يتراجع الرئيس الأمريكي عن الرسوم الجمركية أو حتى تظهر علامات واضحة على انهيار اقتصادي تدفع «الاحتياطي الفيدرالي» إلى تخفيض الفائدة كما يريد ترامب.
والقانون الحاكم لبنك الاحتياطي الفيدرالي، ينص على أنه لا يمكن إزالة صناع السياسات إلا «لسبب وجيه»، وتهدد رغبة ترامب بإقالة باول بإشعال مواجهة قانونية غير مسبوقة، أو التراجع عن استقلالية المؤسسة طويلة الأمد في تحديد أسعار الفائدة كما تراه مناسباً.
وخلال ولايته الأولى ألح ترامب على باول لخفض أسعار الفائدة، لكنه لم ينفذ تهديداته بطرد الرجل الذي اختاره للمنصب في عام 2018. ويعود ذلك جزئياً إلى أن الاحتياطي الفيدرالي خفض أسعار الفائدة في النهاية، وإن لم يكن بالنسبة والسرعة التي أرادها ترامب.
لكن يبدو أن ولايته الثانية مختلفة، حيث سعى ترامب إلى تنصيب موالين له في مناصب رئيسية، كما يُظهر البيت الأبيض أيضاً استعداداً أكبر لتحدي السوابق القانونية والمؤسسية، بما في ذلك استقلالية الاحتياطي الفيدرالي.
قضية روزفلت التاريخية:
ولم يحاول أحد قط إقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي قبل نهاية ولايته الممتدة لأربع سنوات، وقد أقرّ ترامب سابقاً بأن القانون غير واضح بشأن هذا الأمر.
وتسعى وزارة العدل الأمريكية إلى إلغاء مبدأ قانوني قائم منذ 90 عاماً يحمي المُعينين في الهيئات التنظيمية، بمن فيهم الاحتياطي الفيدرالي، من الفصل بسبب نزاع سياسي.
وتقول وزارة العدل إنها تريد إلغاء السابقة القانونية التاريخية التي صدرت عام 1935 والتي وفرت تلك الحماية القانونية لرئيس الاحتياطي الفيدرالي، حيث قال خبراء قانونيون إن حكم المحكمة العليا، الذي قضى بالإجماع بأن الرئيس فرانكلين روزفلت آنذاك يفتقر إلى السلطة لإقالة مفوض في لجنة التجارة الفيدرالية، يوفر أقوى حاجز قانوني لدعم استقلال بنك الاحتياطي الفيدرالي.
ويترقب بعض المسؤولين في البيت الأبيض ما إذا كانت المحكمة العليا ستلغي القضية، المعروفة باسم «منفذ همفري»، بينما يدرسون الخطوات التالية التي قد يتخذها ترامب بشأن باول. ورد باول بالقول إنه حتى لو تراجعت المحكمة العليا عن حكمها لعام 1935، ستجد طريقة لحماية محافظي بنك الاحتياطي الفيدرالي من الإقالة.
ضغوط نيكسون السرية:
حافظ بنك الاحتياطي الفيدرالي على استقلاليته في تحديد السياسة النقدية منذ ارتفاع التضخم في سبعينات القرن الماضي. ووفقاً لتسجيلات المكتب البيضاوي، ضغط الرئيس ريتشارد نيكسون سراً على رئيس الاحتياطي الفيدرالي ومستشاره السابق، آرثر بيرنز، لتخفيف السياسة النقدية قبل انتخابات عام 1972. وقد وافق بيرنز على ذلك.
وبعد سنوات من التضخم المرتفع، والتي عولجت بركود اقتصادي قاسٍ في أوائل ثمانينات القرن الماضي، سعى بنك الاحتياطي الفيدرالي وغيره من البنوك المركزية حول العالم إلى استقلالية تشغيلية واسعة، لتحديد أسعار الفائدة مع مراعاة مصلحة الاقتصاد على المدى الطويل. كما أن استقلال البنوك المركزية يحمي السياسيين من تحمّل مسؤولية الخطوات غير الشعبية الرامية إلى احتواء التضخم.
ويعتبر العديد من المستثمرين في الولايات المتحدة وخارجها استقلالية الاحتياطي الفيدرالي أمراً بالغ الأهمية في تعزيز انخفاض التضخم.
كواليس مناقشات الإقالة:
وأفصح مقربون أن ترامب ناقش على مدى أشهر بشكل خاص إقالة باول، وفي اجتماعات في نادي مارالاغو بفلوريدا، تحدث مع كيفن وارش، وهو حاكم سابق في بنك الاحتياطي الفيدرالي، حول إمكانية إقالة باول قبل انتهاء ولايته، واختياره بديلاً له، لكن وارش نصحه بعدم اتخاذ قرار الإقالة، مؤكداً أنه ينبغي السماح لرئيس الاحتياطي الفيدرالي بإكمال ولايته من دون تدخل.
وداخل البيت الأبيض، دأب وزير الخزانة سكوت بيسنت على معارضة مستشاري ترامب الراغبين في استبدال باول، مؤكداً أن ذلك لن يُحقق فائدة تُذكر مقارنةً بالكلفة الباهظة المُحتملة، ثم وصف استقلالية الاحتياطي الفيدرالي بأنها «كنز ثمين» لا ينبغي للولايات المتحدة التنازل عنه أبداً، ثم أشار إلى أنه على أي حال سيبدأ البيت الأبيض مقابلات مع المرشحين هذا العام، وقبل ستة أشهر تقريباً من انتهاء ولاية باول.
حجج مستشارو ترامب:
ويتحضر مستشارون لترامب لتحدي باول بشكل مباشر، حيث يعتقدون أن داعمي «الاحتياطي الفيدرالي» في واشنطن وول ستريت عززوا استقلاله إلى درجة لا يدعمها القانون الدستوري ولا تصب في مصلحة الاقتصاد.
وأجرى ترامب مقابلة مع وارش لرئاسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي عام 2017 قبل اختيار باول، الذي تولى الرئاسة في العام التالي. كان وارش مساعداً اقتصادياً للرئيس جورج دبليو بوش، الذي رشحه لعضوية مجلس الاحتياطي الفيدرالي عام 2006. وأدى دوراً محورياً في التنسيق بين واشنطن وول ستريت خلال الأزمة المالية عام 2008، ثم غادر الاحتياطي الفيدرالي عام 2011.
ماذا في حالة الإقالة؟
حتى بالنسبة لأعضاء الحزب الجمهوري، تُعد محاولة إقالة باول قبل انتهاء ولايته «خياراً نووياً» لن يُحقق الكثير مما يريده ترامب، مع خلق مخاطر سلبية هائلة، مثل زعزعة الاستقرار في وقت ضبابي.
ويؤكد محللون أنه بإثارة مواجهة قانونية مع الاحتياطي الفيدرالي، لن يُخاطر ترامب بزعزعة استقرار السوق فحسب، بل سيُعيق أجندته التشريعية في الكونغرس، ويُرسي درجة مرتفعة من التدقيق على «الاختيارات المعيارية» لمجلس إدارة «البنك المركزي»، بينما لا تستحق النتائج كل هذا العناء.
ويقول النائب الجمهوري فرانك لوكاس أن بنك الاحتياطي الفيدرالي يتألف من «مجموعة من الأفراد الأذكياء ذوي الإرادة القوية»، وأن فريق العمل المعني بالسياسة النقدية قد يدرس في نهاية المطاف اتخاذ تدابير لتعزيز استقلال بنك الاحتياطي الفيدرالي.