المستثمرون الفقراء.. ماذا يفعلون في "وول ستريت"؟

{title}
همزة وصل   -
قبل عقود، كان الاستثمار في سوق الأسهم من شؤون الأثرياء بالنسبة للطبقة العاملة والمحدودة الدخل. لكن خريطة الاستثمار تغيرت في السنوات الأخيرة مع تطور حملات التسويق الاستثمارية، حيث بات رائجاً الآن ظهور إعلانات لمنصات تداول عالمية تحث الأفراد على الاستثمار عبر البدء بعشرة دولارات فقط.
النتيجة الآن أنه للمرة الأولى في الولايات المتحدة، يمتلك معظم ذوي الدخل المنخفض حساباً استثمارياً، وأكثر من نصف هؤلاء المستثمرين الجدد دخلوا الأسواق خلال السنوات الخمس الماضية، وفق تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال. ومعظم هؤلاء الأفراد مدفوعون برغبة في المغامرة للسعي وراء دخل إضافي، رغم المخاطر العالية نظراً لمحدودية الفائض المالي للطبقة المتوسطة ودون المتوسطة.
وهم أيضاً جزء من موجة متنامية من المستثمرين منخفضي الدخل الذين يتدفقون إلى الأسواق المالية بمعدل غير مسبوق. فعلى مدى عقود، ظل الأميركيون من ذوي الدخل المنخفض والمتوسط خارج اللعبة، بينما راكم أصحاب الدخول المرتفعة ثرواتهم في سلسلة من الأسواق الصاعدة منذ عام 1982. أما في السنوات الأخيرة، فقد دخلوا بقوة إلى السوق وأصبحوا يشكلون نسبة أكبر من أي وقت مضى من أصحاب حسابات الاستثمار الفردي.
من بين الأميركيين الذين تتراوح دخولهم بين 30 ألفاً و80 ألف دولار، يمتلك 54% حسابات استثمار خاضعة للضريبة. ونصف هؤلاء المستثمرين دخلوا السوق خلال السنوات الخمس الأخيرة، وفقاً لمسح جديد شمل 2750 بالغاً أجرته مؤسسة «كومنولث» و«مؤسسة بلاك روك».
أظهر مسح «كومنولث» أن 45% من المستثمرين الجدد أودعوا 5000 دولار أو أكثر في حساباتهم. كما يخطط نحو 40% ممن دخلوا السوق منذ يناير 2020 للاحتفاظ باستثماراتهم لعقدٍ على الأقل لتحقيق أهداف طويلة الأجل مثل التقاعد.
يشكل هؤلاء موجة جديدة من المستثمرين الأفراد الذين باتوا يمتلكون نفوذاً متزايداً في الأسواق، مدفوعين بتداولات بلا عمولات، ونصائح الأسهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وتطبيقات الاستثمار التي تجعل التداول سهلاً مثل بضع نقرات على الهاتف. كما ساهم اندفاعهم للاستفادة من الأسعار المنخفضة في إنعاش سوق الأسهم بعد تراجعها في أبريل بسبب الرسوم الجمركية.
وقد ساعد ارتفاع عدد المستثمرين الأفراد على صعود شركات الوساطة مثل «روبن هود» و«ويبل» التي سهّلت التداول وجذبت المزيد من الناس إلى الأسواق. كما دخل بعض المستثمرين في أدوات مالية أكثر تعقيداً كانت سابقاً حكراً على المحترفين، مثل العقود الآجلة وخيارات التداول قصيرة الأجل.
أحلام القرن العشرين
من ناحية أخرى، يشير هذا التدفق على الاستثمار في الأسهم من جانب ذوي الدخل المنخفض (المستثمرون الفقراء) إلى تلاشي أحلام القرن العشرين في بناء الثروة عبر الطرق التقليدية. وهو ما أشار إليه تقرير وول ستريت جورنال بالقول إن في خلفية هذا المشهد يكمن ابتعاد حلم تملك المنزل الذي كان وسيلة تقليدية لبناء الثروة في أجيال سابقة، فيما أصبح تداول الأسهم أسهل وأرخص من أي وقت مضى. ويقول تيموثي فلاك، الرئيس التنفيذي لمؤسسة «كومنولث»: «من المثير رؤية المزيد من الأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط تشارك في سوق الأسهم. فليس هناك الكثير من الطرق لبناء الثروة».
لكن من بدأ الاستثمار خلال السنوات الخمس إلى العشر الماضية، عاش فترة استثنائية من العوائد المرتفعة وفترات قصيرة فقط من الانخفاضات. فمنذ بداية عام 2020، ارتفع مؤشر «إس آند بي 500» بنحو 130% مع إعادة استثمار الأرباح. وبلغ معدل العائد السنوي أكثر من 15%، بينما تتداول العديد من الشركات بقيم تاريخية مرتفعة مقارنة بأرباحها.
تعرض لبعض الانتكاسات خلال الطريق. إذ قال إنه شعر بالذعر في الأسابيع الأولى لجائحة كوفيد-19 وسحب نحو ثلث محفظته من السوق. لكنه تعلم بعدها الصبر خلال فترات الهبوط، ونمت قيمة محفظته إلى خمسة أرقام. وأضاف: «لقد منحني ذلك طبقة إضافية من الأمان… كنت سأبدأ منذ زمن لو عرفت أن الأمر سيكون هكذا».
لطالما ردّد الاقتصاديون المقولة التقليدية إن «سوق الأسهم ليست الاقتصاد»، أي إن التراجعات المؤقتة في «وول ستريت» لا تصل بالضرورة إلى جيب المواطن العادي. وهذه العزلة مفيدة أحياناً. لكن مع ربط المزيد من الأسر مصيرها المالي بالسوق، تزداد خطورة الانكماشات الواسعة، خاصة مع دخول كثير من المستثمرين الأفراد في عمليات شراء وبيع فردية للأسهم، متجاهلين النصيحة القديمة بالاستثمار في صناديق متنوعة طويلة الأجل.
أرقام جيه بي مورغان
تشير بيانات «معهد جيه بي مورغان» إلى أن الأميركيين من ذوي الدخل دون المتوسط باتوا يساهمون بـ 11% من إجمالي الأموال المتدفقة إلى حسابات الاستثمار الفردية، ارتفاعاً من متوسط بلغ نحو 6% بين عامي 2010 و2015. وتوصلت المؤسسة إلى هذه البيانات من خلال تحويلات عملاء البنك من حساباتهم الجارية إلى حسابات الاستثمار.
في مايو الماضي، شكل أصحاب الدخل المنخفض نحو ثلث عملاء «جيه بي مورغان تشيس» الذين نقلوا أموالاً إلى حسابات الاستثمار، ارتفاعاً من متوسط شهري بنحو 20% خلال الفترة بين 2010 و2015.
كما أنتج السوق الصاعد بعد الجائحة عدداً من المليونيرات الجدد. فـ ديفيس تشيني، البالغ من العمر 30 عاماً، كان من بين ملايين المستثمرين الذين دخلوا السوق خلال الجائحة، حين كان كثيرون عالقين في المنازل وبحوزتهم مدخرات إضافية. قال تشيني: «كنت ألعب ألعاب الكمبيوتر عندما ذكر أحدهم أنه ربح 20 دولاراً من سهم». عندها فتح حساب وساطة وبدأ التداول بالأسهم والخيارات. وأضاف: «إنه يشبه اللعبة. إذا أحببت اللعبة، فستواصل».
وبينما كان يعيش مع والديه، استثمر تقريباً كل دولار من راتبه من عمله كنادل في مطعم «تشيز كيك فاكتوري». وكان يتابع مؤثرين على «إكس» و«يوتيوب» يشاركون ترشيحاتهم للأسهم.
في عام 2023، اشترى مئات الأسهم من شركة تحليل البيانات «بالانتير». وفي العام التالي، ساهم حماس المستثمرين الأفراد مثله في الارتفاع الصاروخي لسهم الشركة. فقد قفز سعر السهم بنحو 900% خلال العامين الماضيين.
لا يزال تشيني يعمل بوظيفة يومية كفني تصوير للقلب، لكن إدارة محفظته التي تقدر الآن بملايين الدولارات أصبحت شغفه الأساسي. وقال: «أشعر أن هناك تحوّلاً قد حدث… في السابق كان يُستهزأ بالمستثمرين الأفراد. الآن نحن صوت ضخم في طريقة عمل الأسواق».
مخاطر مرتفعة 
لكن هذه القفزة السريعة إلى الأسواق لا تخلو من مخاطر. فبحسب «بلاك روك» و«كومنولث»، نحو 35 % من هؤلاء المستثمرين الجدد اضطروا إلى وقف استثماراتهم مؤقتاً بسبب ضغوط مالية مفاجئة. ويعزو المسح ذلك إلى ضعف هامش الأمان المالي لدى هذه الفئة، إذ غالباً ما يُجبر الإنفاق الطارئ — مثل مصاريف الرعاية الصحية أو الإيجارات المرتفعة — المستثمرين على سحب جزء من أموالهم. كما أفاد كثيرون منهم بعدم اليقين بشأن ما يستثمرون فيه، وضعف الخبرة في إدارة المخاطر، وهو ما يزيد من هشاشة مشاركتهم في السوق.
ويحذر خبراء اقتصاديون من أن أي تراجع كبير في الأسواق قد يضرب هذه الفئة بقوة، نظراً لدخولها في موجة صعود استثنائية خلال الأعوام الأخيرة، ما يجعل استراتيجياتها الاستثمارية أقل تنوعاً وأكثر عرضة للمخاطر.
© جميع الحقوق محفوظة لهمزة وصل 2024
تصميم و تطوير