"وصفات فرانكشتاين"...مخبوزات بالذكاء الاصطناعي تستنزف أموالك

{title}
همزة وصل   -
اجتاحت موجة عاتية من "المحتوى الرقمي المضلل" منصات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث، حيث باتت خوارزميات الذكاء الاصطناعي تضخ آلاف الوصفات والمخبوزات التي تبدو "مثالية" في الصور ولكنها "مستحيلة" في الواقع.

هذه الظاهرة، التي باتت تُعرف تقنياً بـ "إيه آي سلوب"، تحولت إلى فخ حقيقي لهواة الطبخ، حيث يتم توليد صور مخبوزات فاتنة بصرياً لا يمكن لأي فرن بشري إنتاجها، مما يؤدي إلى إهدار المكونات باهظة الثمن، وضياع الوقت، وفقدان الثقة في المحتوى الرقمي التعليمي.

إننا لا نواجه مجرد خطأ تقني، بل عملية "سطو رقمي منظم" تستهدف اقتصاد الانتباه وميزانيات الأسر على حد سواء.

وتبرز خيوط هذه المؤامرة الرقمية عبر مواقع وهمية تنتحل أسماء براقة لخبراء لا وجود لهم، مثل الشخصية الافتراضية "آنا كيلي" التي يدعي موقعها "ديسيرتس برو أنها شيف معجنات مدربة احترافياً. وتُعرض في هذه المواقع صور لمخبوزات تتميز بلمعة بلاستيكية مريبة وتفاصيل تتحدى قوانين الفيزياء؛ كأن تظهر حبات التوت داخل الكعك بشكل هندسي غريب لا يتأثر بالحرارة.

ويؤكد الخبير آدم غالاغر، الذي يدير مدونة الطعام الشهيرة "إنسبايرد تيستI منذ عام 2009، أن هذه المواقع هي "مصانع للنقرات" تسرق مجهود الخبازين الحقيقيين عبر "كشط" محتواهم وإعادة صياغته آلياً بأسلوب يفتقر لأبسط قواعد السلامة الغذائية أو الدقة العلمية في كيمياء العجين.

وما لا يدركه الكثيرون هو أن هذه الوصفات تعتمد على ما يُسمى "خوارزميات التجميع العشوائي"؛ فهي لا تفهم معنى "التخمير" أو "درجة حرارة الزبدة"، بل تقوم بدمج أسطر من وصفات مختلفة لمجرد أن الكلمات تبدو متشابهة برمجياً، مما ينتج ما يسميه الخبراء "وصفات فرانكشتاين".

هذه النصوص الهجينة قد تطلب منك أحياناً وضع كميات غير منطقية من الخميرة أو السوائل، مما قد يؤدي ليس فقط لفساد الطعام، بل لخطر انفجار الأواني أو تصاعد أبخرة ضارة داخل المطبخ بسبب التفاعلات الكيميائية الخاطئة نتيجة غياب الرقابة البشرية على النسب والمقادير.

وتمتد خطورة هذه المواقع لتشمل استغلال "الأنماط النفسية المظلمة" للمستخدمين، حيث تُصمم صور فائقة الجاذبية تثير مراكز الجوع بشكل يفوق قدرة الطعام الحقيقي، مقترنة بقصص عاطفية "مزيفة" حول "ذكريات الطفولة" كما في موقع "مافن آيدياز"، مما يساهم في نشر هذه النفايات الرقمية كالنار في الهشيم.

وتتجاوز خسائر هذه الظاهرة الجانب الفني لتتحول إلى نزيف مالي حقيقي في اقتصاد صناعة المحتوى، الذي تُقدر قيمته عالمياً بنحو 250 مليار دولار. وتكشف التقارير أن المواقع الوهمية تستهدف عوائد الإعلانات الرقمية التي تبلغ في المتوسط 30 إلى 50 دولاراً لكل ألف مشاهدة للصفحة ؛ وهو مبلغ يجنيه أصحاب المواقع الآلية بجهد صِفري، بينما يتكلف المدون الحقيقي ما معدله 200 إلى 500 دولار لإنتاج وتجربة وصفة واحدة.

هذا التفاوت أدى إلى انخفاض حركة المرور (Traffic) للمدونين المستقلين بنسبة تتراوح بين 30% و50% خلال العام الأخير وحده، مما يهدد بإغلاق آلاف المشاريع الصغيرة التي تعتمد على منصات مثل "بينتيريست" كمصدر أساسي للدخل.

ومن الناحية التقنية، تترك هذه الصور "بصمة رقمية" يمكن للمستخدم الحذق اكتشافها؛ إذ تفتقر صور الذكاء الاصطناعي إلى "العيوب الطبيعية" التي تميز المخبوزات البشرية، مثل التوزيع غير المتساوي للحرارة.

بدلاً من ذلك، تظهر الصور بتفاصيل "مثالية زيادة عن اللزوم" مع تداخلات غير منطقية في الخلفيات، حيث قد تندمج حافة الطبق مع الكعكة، وهي علامات تؤكد أن المحتوى بصري بحت ولا يستند إلى تجربة فعلية.

وكشف توم كريتشلو، نائب الرئيس التنفيذي لنمو الجمهور في شركة "رابتيف" ، أن شركته حظرت نحو 600 موقع مخالف في عام 2025، إلا أن التقديرات تشير إلى أن هذا الرقم لا يمثل سوى قمة جبل الجليد، حيث تفشل المنصات الكبرى بنسبة 45% في تمييز هذه الصور المزيفة وفقاً لتدقيق موقع "ذا إنديكيتور" (The Indicator) المختص بالأمن الرقمي.

إن تآكل المصداقية هذا دفع الخبيرة جوان غالاغر، الشريكة المؤسسة لمدونة "إنسبايرد تيست"، للتحذير من أن "هراء الذكاء الاصطناعي" يقتل الإبداع البشري، فالمستخدم الذي يفشل في إعداد وصفة بسيطة بسبب تعليمات "روبوت" سيصاب بالإحباط ويتوقف عن المحاولة.

وفي ظل هذا التزييف الممنهج، تبرز الحاجة الملحة للعودة إلى "المصادر الحية" والكتب المطبوعة لخبراء عالميين موثوقين مثل دوري جرينسبان وديفيد ليبوفيتز؛ حيث تظل التجربة البشرية والخطأ والصواب داخل المطبخ الحقيقي هي الضمانة الوحيدة ضد "بلاستيك الشاشات" ووصفات الأشباح التي تغزو عالمنا الافتراضي، محولةً الإنترنت من مصدر للمعرفة إلى متاهة من الوعود الكاذبة.
© جميع الحقوق محفوظة لهمزة وصل 2024
تصميم و تطوير